أدب المقاومة الملتزم بدون الزام. والذي ظهر إلى الوجود العربي بدءاً من إحساس العرب بثقل الجسد العثماني على صدورهم، مع ابتداء يقظتهم من نوم إجباري فرض عليهم زهاء أربعة قرون.

وتململ ذلك الأدب بدوره من خلال رماد الانحطاط. مع الشعراء المجددين والإسلاميين الذين قرأوا الإسلام بعيون معاصرة مثل الكواكبي. وتطور هذا الأدب في مواجهة النوم العثماني... ثم الاستبداد التركي. ثم الاستعمار الأوروبي إلى قرابة منتصف القرن العشرين.

وجاءت كارثة. احتلال فلسطيني الفجائعية كجرح نازف من خاصرة الأمة العربية. ليترفع أدب المقاومة العربي من منزلة السير الهاديء إلى مقام الركض الخبب. فإذا الشعر غير الشعر والرواية تدخل في طور تطوري جديد. وترفع المسرحية صدرها لترافق أجناس الأدب الأخرى التي سبقتها بضعة أشواط.

ويبدأ الحديث النقدي عن مسرح عربي ينتمي إلى العديد من أنماط الأداء الدرامي. بيد أن معظم ما خلَّفته الملكة الإبداعية المسرحية لدى العرب كان مسرحاً ملتزماً يعالج وجود الإنسان العربي في أرضه وفي العالم من حوله.

وغني عن التكرار أن الثورة الفلسطينية على تباعد مواقعها، وتشتت قواعدها في أنحاء الكوكب، استطاعت أن تفرز وراء مقاتليها كوكبة من المبدعين الذين تمكنوا من إبداع تيارات أدبية لها شخصيتها الكاملة في زحام التيارات الأدبية في العالم. وجاء نتاجهم الفكري والفني أنموذجاً جديداً متوهجاً له خصوصيته وفرادته.

و"يوسف جاد الحق" واحد من تلك الإفرازات الإبداعية التي نذرت وجودها لتضميد الجرح الفلسطيني النازف منذ خمسين سنة. وعرفته منذ سنين يكتب الرواية والمسرح والقصة.... وهو عبر هذا الثلاثي مناضل ملتزم تمكن من تحويل القلم إلى قذيفة تضيء في مسيرتها لتصل إلى هدفها بدون إساءة إلى جمالية الفن أو تهاون في سخونة القذيفة.

ويقدم مسرحيته الجديدة: المحاكمة. لتأخذ موقعها في مسيرته الأدبية ذات الالتزام الطوعي النابع من إيمانه بقضية يكتب من أجلها. فما الذي قدمه في مسرحية المحاكمة؟

تقف المسرحية على خلفية واقعية حول واقعية حدثت بالفعل ففي عام 1972 وخلال دورة الألعاب الأولمبية التي انعقدت في ميونخ- ألمانيا- قام بعض المجاهدين الفلسطينيين باحتجاز عدد من اللاعبين اليهود المشاركين بتلك الدورة. مطالبين بإطلاق سراح عدد من الأسرى الفلسطينيين في سجون اليهود. ولما لم تستجب عصابات اليهود للطلب نفذ المجاهدون تهديدهم وأعدموا بعض اللاعبين اليهود. وسلَّموا أنفسهم للسلطات الألمانية التي حاكمتهم.

هذا هو ملخص الخبر الذي حوله يوسف جاد الحق إلى خلفية درامية لمسرحيته.

سيتبادر إلى الذهن أن يقوم الكاتب بتأليف نص مسرحي تسجيلي أو توثيقي، له من التاريخ نصيبه الأوفى ومن الفن نصيب قليل. أو من الإبداع نَزْرُهُ اليسير.

ليشبه عمله عمل المؤرخ أو المؤرخ الفنان في أفضل الحالات. فهل هذا ما صنعه يوسف جاد الحق؟ أم أنه فطن لحالة التبسيط التوثيقي أو التسجيلي. فنقل الخبز من وثائقية التأريخ وسجلات الأحداث الغابرة إلى رؤيا الفنان الخبير بتمزيق الحدث وإبداعه ليرتقي إلى أفق الفن؟

وإذا وصلنا إلى نهاية المسرحية نكون قد اطلعنا وعبر المناضلين الماثلين أمام المحكمة الألمانية على زيف الأساطير اليهودية المفتعلة. وكيف استغل الإعلام الثانية لتثبيت أقدامهم في فلسطين. ولاستجداء عطف أوروبا وأميركا المهيأ أصلاً لمواكبة الاحتلال.

ولعل المناضلين المحاكمين فردوا كل الأوراق التي لملمها روجيه غارودي فيما بعد ليؤلف منها كتبه المعروفة عن زيف الدعوة اليهودية.

هذا هو الإطار الذي صيغت ضمنه فصول المسرحية. التي نراها عملاً فنياً ملتزماً لا يقل عن الأعمال المسرحية العالمية التي تلتزم خطاً فكرياً في عصر التحلل من الالتزام.



الدكتور خالد محيي الدين البرادعي

عودة