الوقواقية ..اللغة والشيفرة و إشاريات السياق

الوحدة

الاثنين23/11/2009

د.وفيق سليطين

تتخذ هذه المقالة من قصة واق الواق انموذجا للتعريف بالمجموعة القصصية الجديدة لـ عاطف ابراهيم صقر وهي الموسومة بـ الحاجز الأخير والصادرة هذا العام عن وزارة الثقافة - الهيئة العامة السورية للكتاب , واذا كان عمله هذا يأتي بعد اصداره الاول المعنون بـ الترقية والذي نال جائزة الشارقة الثانية للإبداع الادبي , فإنه لايخلو من كونه تعميقا للتقليد الكتابي الذي يحفر

فيه ويدأب على انضاج سماته , ورفد جوانبه وتفعيل آلياته العاملة في الإطار النوعي للكتابة القصصية الساخرة .‏

في القصة المتخيرة موضوعا لهذه القراءة, تتخذ اللغة وضعية الفاعل في تأسيس السياق , وتأمين شروط النمو والتفاعل والانفتاح الاشاري على قابليات الايحاء والتدليل ,ولاسيما انها تتناوب في حركة التحول بين لسانين هما : اللسان العربي والآخر الوقوقي وهذه المسافة بين الجانبين ستكون موضع انتاج المفارقة وترشيح الاثر .‏

في مفتتح القصة ينطلق السارد بضمير المتكلم لبسط حكاية ايفاده الى بلاد واق الواق لاتباع دورة غايتها الاستفادة من خبراتهم الادارية علما انه لايحوز اية مؤهلات ولايفهم اية كلمة من اللغة الوقوقية .وهذا الملخص السردي الافتتاحي سيشكل سابقة لصورة المجتمع الوقواقي ونظامه القائم على علاقات القوة والهيمنة والنفوذ التي تدفع كل ماعداها وتنهض ببناء المجتمع وارساء نظام الدولة على شاكلتها . فالسارد المتكلم الذي يفتح على المباشرة يضع أمامنا على نحو عار خبر ايفاده المتحقق بتدخل من قريبه ابي العلاء الذي دحر ترشيح الآخرين بدعمه إياه وهنا تبرز دلالة العلو والصيغة المرتبية في التسمية والإحالة على علاقات الواقع .‏

هذه السابقة السردية تختزن في ذاتها نواة المجتمع الوقواقي وان تكن مؤسسة سرديا في صيغة الإحالة مكانيا على غيره , أي المكان الذي سينطلق منه القاصد مزودا بقرار الإيفاد ومن هذه الزاوية سنلاحظ ان القصة بطريقة حبكها ستنتج سلسلة من المباعدات في المبنى محفوزة بغايات مختلفة منها اصطناع الموضوعية في التقديم وانتاج مسافة الحياد فضلا عن التخفي وراء الايهام بالمغايرة ,والانفصال بين الناظر والمنظور في لعبة المراوغة السردية التي تقوم علي الاحتماء بالأمثولة في اشارة الذات الى ذاتها بوصفها آخر ولايخفى ان سبل انتاج المباعدة في المبنى سيرد بعضها على بعض في المعنى انتهاء الى استخلاص المطابقة , وانتاج وحدة الدلالة التي يتكشف عنها التمثيل .‏

من الآليات التي يعتمدها السرد اذاً آلية تبعيد المكان وسحب الموضوع من الذات الى الاخر , لإنتاج لحظة الانفصال الضرورية عنه التي تمكن من رؤيته ورصده كما تمكن من تقصي صور السلب فيه , على نحو يعصم من حدة المساءلة الرقابية واجراءاتها الضاغطة .‏

يتساوق مع آلية التبعيد اقتراح الرحلة السفر وسيلة للكشف والمراوغة .وهنا يأتي دور اللغة فيستثمر القاص قانون المحاكاة الصوتية الذي يترتب عليه ان أهالي بلاد واق الواق لايتكلمون على الحقيقة انهم يوقوقون فقط . وبهذا تزدوج اللغة بين اللسان الاصلي الوقواقي والكلام العربي الشارح الذي ينقله السارد اعتمادا على كتاب تعلم الوقوقية في خمسة أيام هذا على ان هناك عبارات يزعم السارد انه لم يجد مايقابلها , فيبقي عليها باللغة الوقوقية وحدها . وهذه ايضا تقنية تزيد في شحن النص وترفع من قيمته العلامية التي يوكل أمرها الى السنن الذي ينهض به السياق ويتجه به لإطلاق فاعلية التلقي وتجديد نشاط القراءة من الجهة الاخرى .‏

على الرغم من مبادأة المواطن الوقواقي في الحافلة بالسلام : وق وق وق فإنه يبقى عابسا ويرد السلام بتجهم : بق وق وق وعلى خط الرحلة يدور الحديث بين الوقوقة وشرحها . وبين هذين تكمن مسافة التوسط التي يلعب فيها الخيال اللغوي , لإنتاج مفاعيل التهكم وبناء النقيضة , وشحن الموقف بمتقابلات بلاغة السخرية التي يتكشف عنها اداء المواطن الوقواقي , في الوقت الذي يؤول اليه السرد , ويتولى تقديم حكايته هو الآخر , بكل مافيها من عناصر فردية وجمعية تكشف عن هشاشة النظام الوقواقي وغرابته وعن رسوخه في طوق محكم من فساد المعايير الكلية الشاملة والانحطاط الأخلاقي .‏

بعد ان يسمع السارد حكاية المواطن الوقواقي يقول :‏

مساكين أهالي واق الواق الحمدلله لأنني لا أعيش في بلادهم ولاشك ان هذا النفي يحمل من الجهة الاخرى حقيقة التوكيد ويتصل بإنتاج آلية المباعدة في المتن على النحو الذي يقتضيه بناء الامثولة .‏

وعند وصول الحافلة الى العاصمة يودع السارد جليسه الوقواقي فيتلفت هذا الأخير بحذر , قائلا سق لق حق بق وهي جملة لايجد لها السارد كما يزعم - ترجمة في كتاب تعلم الوقوقية . وفي هذا الإخفاء ضرب اخر من المراوغة السردية يتكفل به السياق ويتولى ايضاحه السنن فالسارد بتعمد اخفاء معنى الجملة ايثارا للسلامة فيبقى الموقف راشحا بقوة الايحاء التي تحيل على النظام الامني الذي يجعل الناس يتعمدون تعطيل التواصل فينحرف باللغة من الإبانة والوضوح الى الوقوقة والتعمية فتبدو الجملة لامعنى لها في الوقت الذي تكون فيه مشبعة بالمعنى الموقوق به .‏

خلاصة الامر ان القصة تقوم على تبعيد موضوعها فتنظر الذات الى ذاتها في مرآة غيرها , ولكنها في العمق ترد اخرها المغاير على ذاتها فتزداد الصورة جلاء في هذه المرآة التي تفعل معنى التهكم والتي تبدو فيها الذات منقسمة على نفسها ومزدوجة بين كونها فاعلا للنظر وموضوعا له وهو مايجعلها تضحك من صورتها المرتسمة في هذه المواجهة ضحكا تحتشد فيه السخرية وتتقطر منه المرارة .‏

وفضلا عن ذلك فإن تقنية البناء تضطلع بإذكاء لحظات التوسط في التبادل والتناوب وتزكي نشاط اللغة بما من شأنه ان يضفي الحيوية على النص ويوهج طاقته على الإشعاع .‏

ان الوقوقية , على نحو ماتبدو في هذه المعالجة ليست مجرد خيال . فالخيال فيها هو صورة أنموذجية للواقع الذي تظلله وتطغو عليه .‏



الوحدة

الاحد20/3/2011

منى كامل الأطرش



في تقنية عالية تجمع بين الكتابة الساخرة وصدق الواقع 00 تأتي المجموعة القصصية " الحاجز الاخير "00 للقاص عاطف ابراهيم صقر 00 وتعرض

مجموعة من الهموم والزفرات 00 والابتسامات الهادفة 0‏

ولابد ان نعترف بأن قراءة قصص الكاتب عاطف 0 وفي احيان كثيرة - تحتاج إلى الدقة والتمعن 00 وإعادة النظر في النقاط , والفواصل , والتفاصيل الصغيرة 00 رغم ان القصة تبدو ظاهريا بسيطة 00 واضحة 00 لكن هناك شيئاً يدعوك إلى الغوص العميق للحصول على الدرر !‏

وقد وفقّ الكاتب في تنوع القصص وعدم الوقوع في مطب التكرار 00‏

وكانت العناوين مفاتيح هموم ٍ فردية وجماعية 00 توافق معها المضمون من حيث الفكرة 00 والعرض 00 والاسلوب القريب من القارئ 00 والذي خلق جواً حميمياً ملاصقاً الواقع 00 والامثلة كثيرة في مفردات الكتاب ولغته القصصية 00ففي قصة " القطاف " مثلاً 00 ننتقل بذاكرتنا الى القرية وأحداثها , وطبيعتها , وأناسها 00 ومنها نقرأ :‏

أطلق "أوف" شجية محاولاً جذب اهتمامها , لكنها كانت مستغرقة في عملها , ولم تعره أي اهتمام , فبدأ يتنقل حولها , بخفة ورشاقة , ويقترب منها بحركة دائرية كبيرة , داعماً حركته بغناء موّال غزلي قديم : "كرمال عيونك لزرع زيتون" "وعبّي بساتيني بعطر الليمون " 0 ص144‏

تبدو فكرة البحث عن الذات هاجساً لدى الكاتب عاطف 00 تنزع البطل في القصص من عالمه المحيط 00 وتضعه في دائرة الضوء والتساؤل 00ليواجه أسئلة قد لا تلقى اجابات شافية ففي قصة " البوابة " نقرأ هذا القلق الوجودي 00‏

" أنا أيضاً سأعبر الخط 00سأرحل 00 سأمضي مع هؤلاء ! سأمضي معهم وأصل الى ما ابتغيه ! وقبل ان يجيب على السؤال الذي طرحه على نفسه : ما الذي يبتغيه؟ رأى مجموعة أخرى عبرت الى الجهة المعاكسة , فحدّث نفسه :‏

بل سأرحل مع هؤلاء " ص 136‏

وفي قصة "الصفعة"00 يعرض الكاتب هموم بعض خريجي المعهد العالي للفنون المسرحية -00 وقلة الحيلة بعد التخرج 00 والتحوّل الى مجرد كومبارس ينتظر فرصة قد لا تأتي , حيث يتلقى الخريج صفعات من البطل وهذا هو الدور الصغير الذي يأخذه في المسرحية 00 رغم ان امكانياته وأحلامه أكبر بكثير حتى من دور البطل:‏

" أضم قبضتي بقوة , أكزّ على أسناني , تنفر عروق رقبتي جسدي كله يرتجف !‏

ذات الفستان الاحمر تصرخ: الآن ! وتدوّي الصفعة ثقيلة قوية لئيمة على خدي !‏

تتراخى قبضتاي , يتلاشى توتري , وأنسحب بسرعة من على الخشبة , وصوت الممثل النجم لا يزال يلاحقني : " انا ناقصك "؟ ص 51‏

وينتقل الكاتب في قصة اخرى " مشروع تخرج " 00 الى عرض فكرة غريبة وجديدة 00 هي عقد صفقة مادية بسيطة بين طالب طب الاسنان والمريض الذي تحتاج اسنانه الى معالجة 00 وبدل ان يدفع المريض لقاء العلاج 00 يتلقى هو أجراً رمزياً يسد بعض حاجاته ومتطلباته 00 وذلك لان الطبيب المعالج لايزال قيد التخرج 0‏

ولايكتفي الكاتب في قصته الى عرض تلك الفكرة 00 بل يتطرق الى ما هو اعمق من خلال نقد بعض الشكليات والاجراءات الروتينية التي تغلّف وترهق مشاريع التخرج 0‏

" امتثل الصغير , وببراءة فتح ثغره الرقيق , كانت طلبات , المدام لاتزال تتدفق في حين كنت أنظر الى أسنانه بمرارة وأرى الكثير 00 الكثير من مشاريع التخرج ! "0 ص83‏

بعض القصص جاءت في مضمون فلسفي 00 نفسي 00 طعّمها الكاتب بأسلوبه الساخر الجميل 00 كأنه أراد أن يقول لنا إن الحياة مفتوحة على الكثير من التساؤلات , والاجابات , والتأملات 00 مثل قصة " العدادون " و" البوابة " و " المنام"0‏

وفي قصة " أبو الهول " نقرأ حزناً انسانياً 00 نتشارك فيه بكل احاسيسنا 00 يعرض حالة العزلة الاجتماعية التي يفرضها المجتمع او شخص على نفسه 00 وتخبرنا القصة الكثير عن مكنونات النفس البشرية وحاجتها الى الدفء الوجودي 00 والتشارك مع الاخرين و"ابو الهول" رغم جبروت شكله وحركاته الباردة يحمل في داخله قلب طفل صغير وبريء 00 إنه محب 00 حنون 00 أفنى عمراً ينتظر فرصة تكشف الطفل في داخله 00‏

"وفي تلك اللحظات هيمن ابو الهول على الاحاسيس 00 شعروا انه اطول قامة مما اعتقدوه , ظهرت له الوان واطياف كثيرة , ولم يعد ذلك الجدّ الاسود والابيض ! فقد توردت وجنتاه , واختلطت ضحكاته بضحكات الاطفال ,و ثلوجه بثلوجهم , بل ان معظمهم شعروا ان نبضاته تداخلت مع نبضاتهم "0 ص 39‏

وفي " فستان زاهدة " 00 لا يسعك الا ان تضحك من القلب 00 وترسم علامة اعجاب ببراعة الكاتب في توظيف المشهد القصصي 00 وابتكار الجديد والجميل دائما 00 بما يخدم حاجة القارئ الى قصص منوّعة لا تخلو من عرض جانب حياتي معاش وهمّ ينصهر في بوتقه الهموم الانسانية 0‏

بقي ان تقول ان " الحاجز الاخير " مجموعة قصصية تقع في حوالي 168 صفحة من القطع الوسط , وتضم احدى وعشرين قصة قصيرة 00 تمحورت كلها حول الانسان وبنائه 00 واعادة صيانة الهموم الحياتية بطريقة واضحة وجريئة 00 ونقيّة!!‏

عودة