شاهر أحمد نصر

الحوار المتمدن



الحرية لا تمارس في الهواء الطلق يا صديقي... تمارس في مناخاتها التي تتطلب اجتراح الحريات... ربما في مناخها المضاد..." "الحرية تكتسب قيمتها من "يقول شهيد لنفسه داخل السجن" ... من مثل هذه الأمكنة التي تصدم الوعي... هل تمكنت الحرية أن تقيم مؤسستها في ساحة وعينا فعلاً قبل أن نزور هكذا أمكنة؟ هل يمكن أن تصبح حراً دون أن تمتلك وعياً بالعالم... بكل ما يحيط بك؟.." مقولة يطرقها الأديب علم الدين عبد اللطيف مع العديد من المقولات الوجودية الكبرى في روايته الجديدة "السور والعتبات"، التي تشي بقدر الهواجس والخيبات والآمال المتراكمة في ذاكرة هذا الإنسان الجميل.

يعالج الكاتب في هذه الرواية قضايا متعددة متشعبة يجمعها الهم الوطني في مرحلة خصبة ومصيرية من تاريخ سوريا، هي المرحلة التي أعقبت الاستقلال مباشرة، ومرحلة تدشين الانقلابات تحت تأثير الفعل الخارجي... محاولاً تقديم لوحة شاملة عن مجمل الأحداث التي عصفت بالبلاد في تلك المرحلة، والتيارات الفكرية المختلفة التي تصارعت.. فهاهو "الحوراني" يرسل برقية "إلى مجلس النواب يعلن فيها أن القتال في فلسطين أكثر أهمية من الخدمة في مجلس النواب".ص15 ويسترجع الكاتب حرب عام 1947 في فلسطين ص154...

كما أنّه لم يغفل قضية لواء اسكندرون، مبحراً في معاني هواجس وآمال فكرة العودة عند الإنسان إلى مسقط رأسه. مفنداً بشكل خفي وغير مباشر كثيراً من الأفكار المتنوعة والمختلفة التي حاول مفكرو تلك المرحلة إقحامها في الوعي الاجتماعي: "نحن لا نظلم أحداً، الرفيق عفلق يقول إن القومية كالدين تنبع من القلب ومن إرادة الله، وهما يسيران يداً بيد، تدعم إحداهما الأخرى، خاصة عندما يمثل الدين عبقرية الأمة وينسجم مع طبيعتها... ما معنى هذا الكلام؟ أليس نوعاً من الدوغما؟ص18

الكلمة عنده هي الفكرة، وهي الأسبق في الوجود، وبها يتم الخلق والإبداع، وفيها تتجسد الثقافة، وقد تعيد تشكيل الإنسان وحتى خلقه، وهي مضمون التاريخ ومغزاه".ص19

وفي رده على لسان شخصيات الرواية على التيارات التي تدعو لبناء المستقبل وفق أسس السلف، ومن بينها الحركات الأصولية يؤكد على أنّه يجب أن "تتم المحاكمة بمقاييس اللحظة... ما كان يخضع للتمحيص والمساءلة... يصبح بفعل تاريخيته فعلاً استذكارياً.. أقرب إلى الحلم".ص120

نعيش جميع هذه الأحداث والصراعات في أجواء رواية تزخر بعبق صور فنية جميلة: "امرأة شهية إلى حد الألم... جميلة إلى حد البكاء... هل أرضعتها عشتار من حليبها؟... ووقفت زمناً تسكب نبيذ الفجر في شفتيها، ورحيق أزهارها في جسدها؟..." ص40

رواية تغني أحداثها المنولوجات الذاتية التي ينقلنا بواسطتها الكاتب إلى ذهن الإنسان وهو يعالج تناقضات وجودية جمة، كالمونولوج الداخلي الذي عاشه عادل المغرم بإلفت وهو في طريقه لمعاقرة عفاف زوجة صديقه الذي قتل في حضوره، يطرح من خلاله تناقضات متعددة تعشش في ذهن الإنسان في مثل هذه اللحظات، من بينها تساؤل رجولي: هل حب امرأتين خطأ؟.. وهل ما يقوم به خيانة لحبيبته إلفت، وما معنى الخيانة؟... ص40 ـ ص60

ولا يغفل الكاتب عن تصوير موقف المرأة من هذه العلاقة: "هل يمكن أن تنشأ بيننا علاقة تنتهي بالزواج؟.. لماذا تلح على إقامة علاقة معي؟.. لا أريد حباً يذلني... تعتبروننا أيها الرجال مجرد دمى صنعت خصيصاً للعبكم".ص58 وعلى الرغم من هذا الموقف الواضح والصارم، تجدها تعطي الرجل مفتاح بيتها...

يكتنز النص بحكم وآراء تلهمها الحياة، وبعضها يرد على لسان الشيخ بصير الذي يضفي على النص طابع البراءة الطفولية: "أنتم ترون ما وراء الحجب... أنا أرى ببصيرتي.." آراء تجذب القارئ وتدعوه للتساؤل وللتمعن، سواء أتفق مع الكاتب أم لم يتفق: "من ليس له أخطاء وحماقات ليس سوياً... إذا جعت، فليكن لقضية... ليس أكفر من جوع بلا قضية.. أسعد الناس الذين لا يعرفون لماذا هم سعداء... الصحيح والغلط أمران يحددهما عموم الناس... ما يفعله العموم هو الصحيح... من يتذاكى على الآخرين يكون ناقص الذكاء... إذا خرجت الأمور من يدك... ولم تعد تستطيع السيطرة عليها.. التأثير فيها، اطرح التفكير جانباً ، حاول أن تبتسم ببلاهة من وفد إلى هذا العالم منذ دقائق".

ولبعض شخصيات الرواية موقف إشكالي من السياسة، والدعوة للابتعاد عنها: "إنها لعبة القطط في الظلام... لا تندفع كثيراً.." الأحزاب لا ينتمي إليها سوى الانتهازيين..ص76

هل يجب أن أحتمل التعذيب والإهانة إلى أن ينجزوا ثورتهم ويقيموا مجتمع العدل والاشتراكية؟... لكن عصفوراً صغيراً بدأ يزقو في داخلك، الدنيا واسعة وابن آدم سباح، يجب أن تكتشف هنا وهناك، مرة بالنهر، ومرة بالبحر، ومرة بالمحيط."ص85

التحزب يحمل في ماهيته معنى ما للتطرف... شيئاً من الزعم بامتلاك الحقيقة..

ولعل الكاتب الذي وفق في تشخيص حالة التطرف، وأهمية للابتعاد عنها: "الناس عادة يسيرون في منتصف الطريق... من يمش على الطرف يعزل نفسه بإرادته عن طابور الناس الذين يشكلون الواقع والموضوع..ص127" فإنّه سيجد نقداً علته إقحام الآراء السياسية في النص إقحاماً عن طريق سرد آراء المتحاورين، واستخدام الحروف كرموز للدلالة عى الشخصيات (ش. م. ع. ح. إ. س. ن)ص36-38

فضلاً على بعض الآراء التي تثير أسئلة كثيرة وكبيرة، ملخصها إن كانت تلك الشخصيات تعرف ماذا تريد؟ فهي تعيش في مرحلة اندماج الهموم الشخصية مع الهموم السياسية والوطنية، مما يجعلها تعيش وتتنفس سياسة، وفي الوقت نفسه ندعوها للابتعاد عن السياسة؟! في رواية سياسية بامتياز. أراد الكاتب من خلالها أن يضع اليد على الجرح. فالانقلاب الأول على الديموقراطية في سوريا تم تحت ضغط القوى الخارجية التي تدعي تبنيها للديموقراطية: "اسمعاني جيداً... تذكرا كلامي... ستحكم على ذلك قضيتا تدعيم الليرة مع فرنسا، وقضية التيبلاين مع أمريكا، اللتان يرفض المجلس النيابي المصادقة عليهما. ص161

أنا أرى أن التجربة البرلمانية في البلد لا تناسب القوى الغربية تحديداً... قد تعطل مصالحهم... هم يريدون مصالحهم ولا يريدون ديموقراطيتنا...ص204

جهة خارجية زينت لأحدهم الانقلاب على الحكومة... وعلى الرغم من حسم الموقف وتدشين مرحلة الانقلابات التي تتناقض مع مسألة الديمقراطية يبقى العقلاء يأملون بـ "إمكانية الاستفادة من الانقلاب ذاته للاصلاح والتقدم... وأن يعمل رجال السياسة متضامنين لتجنب المزيد من توريط الجيش في السياسة... أنا أعرف أنّ كل هذا كلام... لن نقول أكثر ما قالته الكمان للريح..." لكن نتيجة الانقلابات أصبحت واضحة للعيان فقد أصابت المجتمع بالشلل، والكاتب موفق في تصوير هذه الحالة على لسان عادل: "أصبح كثيرون مثلي ضحايا... لا يستطيعون الحراك... الاتيان بأي فعل... الموت بطريقة واحدة دوماً هو تجاهل لضخامة الحياة... ليست الحسرة في الموت... الحسرة على اتيان فعل نبيل كان يمكن تحقيقه..."ص234

قدم الأديب "علم الدين عبد اللطيف" في "السور والعتبات" رواية غنية بالأحداث، والفكر والمواقف التي امتازت بتسلسل مقنع للأحداث، وصور تتهادى، وتمكن جيد في إدارة الحوار، ولغة خطاب سلسة وحبكة جذابة، وسرد ممتع مستخدماً جميلة بسيطة تنساب مع الأحداث بسلاسة، وفق أسلوب رشيق، جذاب وممتع يشد القارئ.. يدعوه للتمعن والتفكير: قوى خفية... أشباح... توجهنا وتقودنا...ص134 حبذا لو أغنيت بوصف حميمي للمكان.. إنّها رواية حدث، بل أحداث. لكل شخصية دورها الأساسي. تبدأ بجدارة وتنتهي بجدارة، وكأن لسان حال الأديب علم الدين عبد اللطيف يقول في الختام إنّه لم يتعب من الكتابة بعد.. ونحن نقول له حبذا لو يعالج قضايا الحاضر والمستقبل، طالما لم يتعب بعد.

صدرت الرواية عن: دار الحوار للنشر والتوزيع

سورية ـ اللاذقية ص.ب: 1018 ـ الطبعة الأولى: 2008

عودة