النيل والفرات



تضم هذه الرواية الثانية للكاتب والصحافي السوري ، صاحب الكتابات الدرامية التلفزيونية المتعددة ، قصص مجموعة من الشخصيات المتنوعة والمترابطة والقاطنة في بلدة يضربها الجراد. بكثير من المشهدية البصرية، وبأسلوب سلس ومشوّق، وبحس إنساني متميز بالواقعية وبالشفافية في آن، يخط الكاتب روايته، ليؤثر في القارئ ويشده لمتابعة أحداثها وللتعرف على صفات أبطالها .

يتم الولوج إلى مواضيع الحياة الرئيسية ، عبر سرد حياة العديد من النماذج البشرية، التي ستتشابك فيما بينها وتترابط كي تشّكل بنياناً متكاملاً. فللتطرق إلى موضوع الشيخوخة، سيتعرف القارئ على شخصية "أدهم أفندي" رئيس مكتب البريد المتقاعد ، الذي "كان دائماً يرى أن الحياة أجمل وتغدو ساحرة عندما يجري فيها شيء غير متوقع"، والذي سيأكل الجراد رسائله المخزنّة والتي "بخسارتها بات يشعر بأنه يعيش كنصف إنسان بنصف حياة لأن نصف الدليل الآخر ذهب إلى القمامة"، وعلى شخصية صديقه الجنرال الذي تشغله على الدوام "ذكريات الحرب والجبهات المدخنة ودروب الجنود التي يلاقي فيها الرجال حتوفهم".

ثم رتيبة التي أجبرها زوجها الموسيقي الفاشل على ممارسة الدعارة "وقال لها بأسلوبه الشيطاني في إدارة الحديث إن الحياة المعاصرة لم تعد تحتمل الكثير من الشرف والصدق والقليل منهما يكفي للعيش"، والتي أصبح حب أدهم أفندي متنفساً لها، فالطريقة الوحيدة لكي ينسى المرء نفسه هي وجوده مع شخص آخر يحبه، وهي التي توصلت إلى أن حياتها تغدو صعبة للغاية وقد لا تطاق أحياناً من دون ذلك التصور بأن أدهم أفندي موجود فيها".

أما شخصية "هيلانة" بائعة ماء الورد، فهي التي استغلت جسد حفيدتها من أجل الثراء، وكانت تحدد أجراً معيناً عن كل جزء من أجزاء الجسد يرغب الزائر في رؤيته من خلال كوة المقصورة.

"عانس الدمى"، التي كانت تجمع الأقمشة وتصنع منها دمى للأطفال وللكبار التي تزين بها غرف الضيوف والصالونات في المنازل، يتغير مصيرها وتتزوج بفضل فتى "الديك الرومي".

سيستمتع القارئ بهذه الرواية، وسيتعلق بأبطالها وبمعرفة قصصهم، ويتفاعل مع مشاعرهم ويترقب مصائرهم.



التيه كمصير مُحتمَل روائيّاً..

قـراءة فـي رواية "بريد تائه"

هيثم حسين



بعد عمله الصحافيّ المديد، وكتابته لعدد من المسلسلات الدراميّة الطويلة كـ"نزار قبّاني ، أسمهان ، الطويبي ، هوى بحريّ.." ، يتبدّى توجّه "قمر الزمان علّوش" إلى الرواية ، التي يحاول أن يتوّج بها عمله الأدبيّ والفنّيّ ، كأنّما لا بدّ من الرواية حتّى تكتمل الحلقة ، حيث ينشر روايته الثانية "بريد تائه" التي تأتي بعد "هوى بحريّ".

تدور أحداث الرواية في بلدة بحريّة غير مسمّاة يجتاحها الجراد ، يُستشفّ من سياق الأحداث أنّها بلدة "جبلة" التي ينحدر منها الكاتب ، أو إحدى بلدات الساحل السوريّ.

والزمان أيضاً لا يكون محدّداً بدقّة، بل يكون ضبابيّاً ، مغلّفاً بترميز يشير إلى بداية العهد الجديد بعد الوحدة ، حيث استلم الحكم فيها بعض الضبّاط ، رفعوا شعارات إيديولوجيّة عريضة ، لم يحقّقوا منها شيئاً.

ذلك مع العودة سرداً واستذكاراً إلى أيّام سابقة، والتذكير ببعض الأحداث المرافقة.

تتّخذ الرواية من "أدهم أفندي" بوست شخصيّةً رئيسةً تدور حولها الأحداث ، يسرد تاريخ البلدة عبر سرد تاريخه الشخصيّ ، لا يكون أحدهما بمعزل عن الآخر.

فهو موظّف متقاعد يبلغ من العمر ثلاثة وستين عاماً ، كان من أوائل موظّفي الدولة في المنطقة ، عيّن في البريد ينقل ويوصل الرسائل ، اكتسب لقبه من عمله في البريد ، تقلّص دوره في الحياة العامّة وقلّ زوّاره بعد إحالته إلى التقاعد ، وتجاهله الناس في المقاهي والأمكنة العامّة ، «فالناس مهيّؤون بطبعهم لنسيان أشخاص مرموقين في الدولة خسروا مناصبهم ولم يعودوا مفيدين لهم في شيء»، ص،: 18.

يقوّي ذاكرته بالذكريات ، حيث احتفظ من عمله بمجموعة من الأختام بعضها بطل استخدامه والآخر لا يزال قيد الاستعمال ، «بقيت الذكرى الوحيدة الملموسة عن وظيفة حفلت بالنشاط والمتعة والشهرة عقوداً من الزمن»، ص: 19.

ظلّ بوست أعزبَ طوال عمره ، لأنّه كان منذ شبابه المبكر يعتنق فكرة أنّ الزواج يحيل الحبّ السامي إلى أحاديث تافهة ، كما كان حصيناً أمام الغواية بقرار شخصيّ، لكنّه لم يستطع الصمود أمام إغواء جارته الفاتنة "رتيبة الأغوانيّ" ، زوجة عازف الكمان الوصوليّ الذي يدفعها إلى ارتكاب الفاحشة ، كي تستحصل له المال ، الذي سيفتح له أبواب الشهرة والمجد ، حيث تذعن رتيبة تحت ضغط وإرغام زوجها، الذي كانت قد ارتبطت به رغماً عن أهلها الذين رفضوا تزويجها منه ، لأنّها كانت من عائلة معروفة ، فيما هو معلّم موسيقى غير معروف النسب.. تتوجّه رتيبة إلى جارها "أدهم أفندي" ، تعرض نفسها عليه ، تغريه بمفاتنها ، وعندما يستفهم منها عن أسباب تصرّفها ، تبوح له بما جرى بينها وبين زوجها ، فيتفهّم موقفها، يبدأ بالتعاطف معها ، يضع لها كمّيّة من النقود في درج طاولته ، لتكون تحت تصرّفها ، تأخذ منها ما تشاء، ثمّ ينغمس في حبّها ، يبدو أنّه لا يستطيع أن يمارس معها ، فيقوم بتعويض هذا الإخفاق ، بختم ومهر كلّ مسامّ جسدها بأختامه القديمة، «فبدا له وكأنّه للمرّة الأولى يكتشف أهمّيّة أختامه البريديّة تلك. وأنّه عندما يطبع بها بشرة رتيبة النقيّة فإنّه لا يرمي إلى التعبير عن هواجس وعادات قديمة تملؤه وحسب، إنّما لكي يكسب تلك الأختام الميتة من بشرتها الحيّة انبعاثاً دائماً وتميّزاً أفضل، فتستمرّ روح هذا العالم بالنسبة له، فلا تمرّ حياته في لحظة سكون أو عطالة، تكون أولى علامات الفناء». ص: 56.

كأنّما يرسم تاريخه عبر الأختام على جسدها ، ليكون جسدها البريد الذي يتيه عن إيصال رسائله الكثيرة إلى عناوينها ، كما هو بريد زوجها إلى المال ، أو هو وسيلته التي يبرّر بها الغاية التي يطمح إليها ، حيث يهدف إلى التطهّر فيما بعد ، والبدء ببداية جديدة.. لأنّ الأمور تتبدّل بعد التغييرات التي تحصل في بنية الدولة ، تحلّ الانتهازيّة محلّ التفاني، عندما يقول : «نحن الآن في زمن الأيديولوجيا حيث تفتح الأبواب وحدها عند استخدام كلمة السرّ السحريّة المناسبة لها». ص: 92.

يكون "أدهم أفندي" مستسلماً للوقائع ، غير متجرئ على قول ما يعتمل في داخله عن العصر الجديد الذي يرمي المتحكّمون بالمصائر فيه إلى نسف الماضي ، بوصمه بكلّ قبحٍ ممكن: «أراد أن يقول له إنّ العيش في ذلك الماضي لم يكن بهذا السوء الذي تتحدّثون عنه، وعندما تحاولون تحطيمه لأنّكم تريدون أن تصنعوا تاريخاً آخر، فإنّكم بذلك تحطّمون إحدى ساقَي الحياة، وما هذا إلاّ نذير بأنّنا نقف على أبواب كارثة حقيقيّة». ص: 71.

«بريد تائه» لقمر الزمان علّوش، رغم الجهد المقروء، هي تتويج أدبيّ فضّي لأعمال دراميّة «مذهّبة»، اختُلف في تقييمها وعليها..

الرواية صادرة عن دار الريّس "نيسان" 2009م ، تقع في 178 صفحة من القطع الوسط. تقسَّم إلى عشرة فصول.

عودة