د. حبيب الراعي

موقع جريدة الثورة

صدرت مؤخراً رواية "الآس والحبلاس" للكاتب "فريد دحدوح" وهي روايته الأولى وسبق أن نشر محموعات من الشعر الزجلي والقصص.

الإطار التاريخي للرواية : بطل الرواية الأول هو حي الصالحية الشهير بدمشق وهو يشكل الفضاء المكاني لأحداثها، وتشكل "أم عرب" البطلة الأولى للجانب الإنساني محركة الأحداث و نبض الحياة في فترة مهمة من تاريخ سوريا والممتدة بين الحربين ، وهي فترة محملة بكثير من الدلالات التي شكلت مفصلا حاسماً ارتكزت عليه الحقبة الحالية لسوريا المعاصرة وللمجتمع الدمشقي في زمننا الحاضر .

تقترب الرواية إلى السيرة الذاتية فالكاتب ينتمي إلى هذه العائلة الدمشقية والذي يؤكد بأنها «قصة حقيقية عاشتها الصالحية في فترة زمنية إبان الحرب العالميتين الأولى والثانية» ، وهو يتناول فيهاالأحداث التي دارت في سوريا في تلك الفترة وانعكاساتها على سكان حي الصالحية وخاصة وبشكل أساس عائلة "أم عرب" "نجلاء" وبحسه الأقرب إلى المرحلة الأولى عام 1914 وتنتهي عام 1918 وتتميز هذه الفترة أقسى الفترات التي تمر على السوريين وفيها عانوا الأمرين من المجاعة والمظالم التي رافقت "السفر برلك" الشهير في سوريا، وفيها يتحدث عن سفر "أبوعرب" إلى أمريكا ودخول الحلفاء إلى سوريا. المرحلة الثانية تمتد بين عامي 1918 و 1925 وفيها يتناول خروج العثمانيين ودخول الحلفاء "دمشق" ومعركة "ميسلون" وبدء المقاومة في الساحل والشمال وفي "دمشق" و"الغوطة" ثم الثورة السورية الكبرى والمرحلة الثالثة تمتد بين عامي 1927 و 1936 ويتناول الكاتب فيها الثورة السورية الكبرى وعودة "أبو عرب" وزواج ابنته "يسرى" وحادثة الغجرية وشراء بيت "يسرى" ووضع البلاد وصولا لمعاهدة 1936.

حيث تبدأ المرحلة الرابعة وتنتهي عام 1946 ويتحدث فيها عن وضع البلاد تحت نير الاستعمار الفرنسي وسلخ لواء اسكندرون ، وحادثة مقتل "أبو عرب" وانتهاء الحرب العالمية الثانية بين عامي 1946و 1967 وفيها يرصد بروز شخصية "أم عرب" الجديدة وقضية فلسطين وسيطرة الأفكار الخرافية عن الإنقلابات على الناس والتحاق "محمد ديب" بالمقاومة في فلسطين ويتحدث عن الإنقلابات العسكرية في سورية والعدوان الثلاثي على مصر والوحدة العربية و الانفصال وصولاً لثورة 1936 وحرب 1967 وهو تاريخ بداية المرحلة السادسة والأخيرة والتي تنتهي عام 1976 وفيها تشجع "أم عرب" حفيدها عادل على تسوية وضعه في الجيش وتحول البيت العربي إلى بناء حديث ويتحدث فيها الكاتب عن علاقة أم عرب مع أحفادها وموقفها من حرب حزيران وتشرين , وأخيراً وفاتها عام 1976 إلى أبعد الحدود.

تعمدت ذكر أقسام الرواية كما وضعها الكاتب بالرغم من طولها لأدلل على ذلك الحس التاريخي الذي يحكم مجريات الرواية دون أن يجعل منها رواية تاريخية بل هي رواية اجتماعية في حضن التاريخ وبين جنباته .

كذلك نلاحظ أنه بالرغم من هذا الكم الكبير للأحداث التي مرت بها سوريا والتي كان محركها الأول السياسة في كثير من المفاصل الحاسمة حيث تنامي الشعور العربي القومي والسوري ومقاومة الاستعمار وبروز الأحداث السياسية والانقلابات العسكرية والوحدة والانفصال وثورة البعث... إلا أن الكاتب يبقي نفسه على مسافة بعيدة عن التحزب والحزبية وما نلمحه في كل صفحة وفي كل سطر هو انتماءه الوطني لسوريا ولناسها ولصالحيتها ولغوطتها ولساحلها وجبلها وسهلها دون أن يدخل في دهاليز السياسية وتحزباتها، وهو بذلك مثل بطلة روايته "أم عرب".

معالم الشخصيات بين الانقطاع والنمطية : جاءت شخصيات الرواية باهتة ونمطية في أحيان كثيرة، غارقة بغموض مرده العموميات أو التفاصيل الزائدة التي حاولت رسم ملامحها الواقعية .

لكن وبالمقابل هناك كثير من التفاصيل البسيطة التي شكلت الوجه الذي تميز بالعمق وجعل تلك الشخصيات أحياناً تكون قريبة جداً منّا مثل استعداد "أم عرب" مع أولادها للعيد وجولة التسوق وشراء الملابس وحادثة هبوط "الجرابات" على ابنتها "يسرى" عندما لجأت إلى قبور الأولياء والتي جاءت في سياق غني بالطرافة والدلالات كذلك عرضه مصلحة "الإطفائية" في "دمشق" بداية القرن العشرين ، وحادثة "الجرصة" التي حكم بها "أبو هاشم" لسرقته كيس حنطة .

كذلك جاء وصف لقاء "يسرى" بأبيها العائد من أمريكا في غاية الدفء الإنساني وكان صادقاً ومقنعاً . والأكيد أن مثل هذه التفاصيل البسيطة والتي تكون في أحيان كثيرة مألوفة لكنها غير منتظرة هي التي تقضي للرواية وشكلها تفاصيل أخرى من لحم ودم، وتخرجها من العموميات والنمطية مثل : وصف عودة أبو عرب من أمريكا الذي فاجأ أسرته بدخوله الدار أمام ذهول "أم عرب" وسلام ابنته "يسرى" الحار في أجواء كانت أكثر من مقنعة لكن هل من المعقول أننا لم نسمع كلمة واحدة من "محمد ديب" الابن بالتبني ، ألم يكن من الطبيعي أن تقدمه «أم عرب» لزوجها أو تذكر عنه شيئا ً أو أن يسأل عنه "أبو عرب"، بل عمدت إلى تقديم ابن خالها "فارس" إلى أبيها ولم تقدم أخيها إليه .

كذلك فإن حادثة استدراج "عجاج"للمرأة اللعوب "بعد أن يغازلها" إلى أحد البساتين يوحي بأننا سنشهد رصداً لسلوك عجاج في خلوته بتلك المرأة، خاصة وأن الكاتب عرض بأسلوب طريقة المغازلة تلك الأيام ، ولكن لحل شيء ينقطع بعد أن يأتي "عجاج" لبيت أهله لأخد الطعام ولزوم السيران مع تلك المرأة .

كذلك يأتي زوج "يسرى" على شرحها لأقسام البيت الذي اشترته قائلا : «أنت يا بنت خالي لازم تكوني دليل سياحي والله بتطيري عأل السياح بوصفك للأماكن السياحية...» فهل من المعقول أن يشبهها بالدليل السياحي في سنوات الثلاثينيات وهل كان في سوريا أيامها سياحة وأدلاء سياحيين وإذا وجد فهل كان عامة الناس على علم بالسياحة وبعمل الأدلاء ..؟ وطبعا لا أعتقد أن السياحة كانت ضمن النشاطات الموجودة في سوريا في ذلك الوقت لأن السياحة بدأت تعرف شكلها الحالي المنظم في العالم الغربي في الخمسينيات من القرن العشرين بهدف ترفيه الناس في أوروبا بعد سنوات الحرب العالمية الثانية .

كذلك يذكر الكاتب حادثة تتمثل بمشاركة سوريا بوفد احتفالات إيطاليا "موسوليني" بأخذ انتصاراته حيث قام الوفد السوري الذي لم يكن عنده نشيد وطني كما يذكر بإنشاء أغنية "يعقوب" وفيها هجاء لموسوليني الذي عمد بدوره بعد أن ترجموا له مضمون الأغنية إلى حجز الوفد وترحيله لسوريا، ولا نعرف مدى حقيقة هذه الحادثة، أم أنها نسج الخيال الشعبي لأني وجدتها مذكورة بشكل شبه حرفي في كتاب الرحالة السوري الشهير "عدنان حسني تللو"وعنوان الكتاب : "القوة والاقتدار في بحور الأسفار".

الانتماء إلى الحياة: أخيراً أرى هذه الرواية تنطوي على أهمية أكيدة خاصة من ناحية كونها توثيقاً لحال الناس وللأشكال المكانية كما كانت عليه في فترات تاريخية أصبحت بعيدة زمانياً عنا، وهي صادرة عن ذكريات عاشها الكاتب باعتبارها ذكريات شخصية لكنها بالوقت نفسه تمس كل شخص منا، وهي خطوة رائعة تستلزم أن نكسر حاجز الخوف من الذات وأن نبدأ بتسجيل وكتابة ونشر سيرنا الذاتية والتي لا بد أنت تتسم بالبوح والتعرية الواقيعة كلٍ أمام مرآته الخاصة ضد التكتم والتقوقع نحو التحرر من الماضي و الإنتماء للحياة «هنا والآن» .

عنوان الرواية : أم عرب الآس والحبلاس

الكاتب : فريد دحدوح

الغلاف:د.باسم دحدوح

الناشر : دار نينوى









.

عودة