طارق مصطفى

موقع شرفات



إلى سنِّي العجفاء

ها قد عدتُ إلى فتوَّتي طازجاً

أفتش عن عشيقاتي العتيقات، لكنَّ مأساتي:

رأيتهنَّ وقد عبرنَ نحو الضِّفَّةِ الأخرى

فغدوتُ كأرجوحة طفلٍ:

لا هنا أستقرُّ، ولا هناك أستمرُّ، وبقي عزائي:

قصائد شعر، وغفوة مطر.

هذا هو الإهداء الذي يفتتح فيه الشاعر "أنطون دوشي" ديوانه: "لماذا محوتم آثار أقدامي" الصادر عن دار "بدايات" للنشر "2009".

كثيراً ما يتمُّ الحديث عن الطفل الرابض في روح الشاعر، المُتربّع على عرش بصيرته، الطفل الذي يرى كلَّ شيء بنظافةٍ مطلقة، فيُطالب حامله بعشق الحياة والنّزق منها في آنٍ، ويورّطه بالمعنى والدمع.

علَّمتني يا أبي

كيف أسافر في هزيع الليل

عاري العينين

دون أن أحمل في حدقتيّْ الزرقاء

زوّادة نوم للسفر.

قلتَ للطفل البائس في أعماقي:

"كن رجلاً قبل الأوان"

والطفولة خرافةٌ عابرةٌ... ستأتيكَ يوماً...

"أنطون دوشي" الذي حمل طفله في قلبه، كتب كلَّ ما أملاه عليه هذا الطفل الوحشي، المسرف برؤية الأصل والحقيقة، المدمن على الصراخ إعلاناً لما رأى أو تخيَّلاً من مخاض الولادة حتّى قيام الرّوح :

هنيئاً لك...

كَم كُنتَ مزهوّاً، يوم صفعتني بقوة عند طاقة الشفق

وأنا أتعربش حائط الفردوس المزركش

لأفضي إلى حدائقه الزهراء، حيث يرقرق الانبهار؟

هنيئاً لك، ذاك الانشطار عن حبل المشيمة الزاحف

من الرحم إلى التيه.

طفلٌ يقول كلَّ شيء، مباشرةًَ، دون أيِّ ترفٍ نفسي، أو أيِّ مساندةٍ من مرجعيّة علميّة أو دراسيّة ـ لا داعي للقول، بأنَّ الشّاعر يولد شاعراً، ولا يدرس ذلك كي يُصبحه، وأنَّ الحياة هي معلِّم الثقافة وخزّان التعبير الأول والأخير ـ فلا مساندة إلا ممّا رأت العينان، ولا ذخيرة إلا ذلك الإيقاع البدئي الغريزي السّاحر، الذي يتجمّع ويضجُّ في الوجدان، لينفجر ناشراً شظاياه، قبيلةً من الكلمات البرِّيَّة، تسلك درباً غجريَّةً على الورقة البيضاء، لكن عندما تقرأ، تشعر بأنَّ هناك شيئاً ما، على درجة عالية من النبل والصدق والحقيقيّة، يجول في البياض، الذي يفصل الكلمة عن أختها ـ أو عن عدوَّتها ـ الكلمة، ليكون فيما بينها، طاقةً جاذبةً حيناً، ونابذةً حيناً آخر، مُشكلاً ما يشبه الشكيمة، شكيمةَ روحٍ ـ ببساطة ـ عاشت الحياة كلُّ شبر بدمعة، بابتسامة، بجرح ولم تكبر منذ لحظة الولادة، مرَّ الزّمن على جسدٍ احتواها، فأفرزت شعراً له رائحة قمح الجزيرة، مطعّمةً بملح العرق الذي يعطي لزند الرجل أمارَتَه حيناً، وبعبق كلِّ النّساء اللائي يمخرنَ الذاكرة، حيناً آخر.

في هذا الديوان، لم يقدّم "أنطون دوشي" ردّات فعل روحٍ رأت وعاشت وحسب، بل أعاد إنتاج كلَّ ما قصفته به الحياة من عذابات ونشوات مسيلةٍ للدّمع والمطر.

وعند إعادة إنتاج تلك الغارات، وقع طفل الرّوح في فخِّ الشّيخوخة الجميل، اللابُدَّ منه، فنجده يكسر كلَّ النسق الشعري، ليقول لنا حقيقته، أو حقيقة ما رآه، ليعلن التفاته إلى الوراء، مُحصياً قدرَ ما عاش، وعندما يعود الرأس إلى اتجاهه فلا يرى أماماً، يضطر العقل بغريزته القروية، أن يمطر حكمةً خاصّة:

المشكلة، عندما أعود إلى الوراء:

لم أعد أعرف، أين بقي الأمام...

كن الأقصى من هنا، أو الأقصى من هناك

لأنَّ ما بينهما مستنقعات آسنة، تعفّنت فيها قامات الاعتدال...

لا تحمل فوق طاقتك

لأنَّك ستُضطرُّ لمعالجة ساقيك...

إذا أرادت المرأة أن تقتل الرجل، تقول له:

أنا المركّب وأنت البسيط...

هذه الحكم، لها علاقة بشخص عاش جاعلاً من روحه رقيباً، ومن ذاكرته مستودعاً نبيلاً.

في قصيدته "لماذا محوتم آثار أقدامي" والتي تشبه السيرة الذاتيّة لروحه الشعرية، نجد جانب الألم الوجداني، وقد بلغ أشُدَّهُ، حيث يصل الشاعر بين طفولته الوجوديّة وطفولته الدنيويّة بوترٍ خفيٍّ.

الصفعة التي يتلقّاها الرُّوح الطفلُ من أبيه الكوني، تشبه كثيراً دكَّ أمعاء الأرض بالرّفش، كردِّ فعلٍ على فقدان الطفولة والحرمان منها، هذا الحرمان، الذي يصلنا بشكلٍ خفيّ خلال سير القصيدة، التي تحتوي على كلِّ ما يمكن أن يقوله شاعرٌ على مستوى عالٍ من القلق: وجود، ولادة، طفولة، قهر، فقر، فقد، تاريخٌ "سيخ"، تعصب للغريزة، خيانة لها، رؤية، عشق، نبوءة، والحق المسلوب من الجسد... كلُّها تناولها الشاعر بعمقٍ مفعم بالألم الحيوي النَّشط ذي المقولة المباشرة، الواضحة، التي تصل عبر جسر لغوي بسيطٌ أحياناً، لكنَّه متينٌ وقوي. فما نفع أن تمتلك جسراً لغويّاً سميكاً وأنت خالي الحدقة، أو محرومٌ منها أصلاً...

أروح ناحراً وخيالي إلى وراء الوقت

إلى الطفل الذي ما زال يبكي من فراغات الصَّفعة الأولى

كاندهاش الأسئلة:

أأيضاً أبي

يخبِّئُ في جلبابه قبضة القتل.. ؟! ..

يقول الرّفش:

أنا أبدٌ ومستقيم.

لا تعنيني ما تقوله الأجراس وأخواتها ولا دموع الصّليب

ولا الكلام الزاحف فوق شوك الجليل

طالما الأرض: لا تنتفخ بطنها، ولا تجوَّف

سأبقى أدكُّ في أمعائها

أغنيتي الطفوليَّة بلا فزعٍ أو خوف...

أمّا اللغة في هذا الدّيوان، فبدون تنميق وتعقيد، إنَّها لغة كاتب الرؤية كما هي، والذي من الواضح تماماً أنّه لا يهتم بملء فجواتها طالما أنَّ الصورة الشعريّة قد وُلِدت، وهذا بحدِّ ذاته حالةٌ شعريَّةٌ صرفة، شيءٌ يشبه التّشكّل والولادة.

عودة