الناشر

في هذه الرواية تتقاطع المعوقات المتعددة وتتصادم لتمضي جميعاً إلى أحلام ... لكن الأحلام في ظل شرطها الاجتماعي تقود إلى شرك يسقط الأبطال فيه تباعاً ، لنصل بهم إلى حالة من إعاقة الروح ، ولتصبح محاولة الخروج من الشرك كمن يتحرك في الأوحال ، فيأتي سعي الشخصيات للمصالحة أو المهادنة عزفاً آخر على وتر الخيبة والحاصل واقع جديد من الانكسار والتشظي تسير الشخصيات نحوه في خانق ضيق حتى نهاياتها.

واللافت للإهتمام في الرواية أنه تستمد مفرداتها التشكيلية واللغوية من بساطة عالمها الشعبي والمحلي المفعم بصدق التعامل وعفوية الإنفعال من الحدث والموقف الدرامي .



ملحق ثقافي

3/10/2006م

فيصل خرتش

تتحدث رواية "طوق الأحلام " عن "يحيى عبد الرحيم"، و هو الشخصية المركزية الأولى التي تشد العمل الروائي من لحظة فتح الكتاب إلى نهايتها ، “ كان عبد الرحيم “ والد يحيى قد مات شاباً ، والأم صبية بحثت لها عن زوج واختفت هي الأخرى .

والولد "يحيى" وضع عند جدته لترعاه ، فربته التربية التي تعتقد أنها ناجحة ، في وسط من نساء لا يلدن إلا بناتاً ، خاصة وأن "يحيى" سقط من الأرجوحة وأصيب بالحمى الدماغية وقد أخبرهم الطبيب الألماني في بيروت أن الطفل مصاب بشلل نصفي على إثر السقطة وبالحمى الدماغية من بعدها ، فكانت النتيجة بعض حبوب وشراب وكرسي متحرك .

يعود كاتبنا إلى مرحلة الخمسينات فيرصدها عن معرفة وخبرة ودراية ، فالبيئة الشعبية هي مجاله الواسع المدهش الذي يحوله الكاتب إلى عالم من الأساطير التي تهزنا بأجوائها الماتعة ولو إلى حين ، يرسم لنا الكاتب هذا العالم الساحر بلغة أقل ما يقال عنها أنها خلابة ، أنيقة ، مدهشة ، تفصل الثوب على " قد " الشخصية ، فتجلس الشخصية بيننا ، تحكي لنا سيرتها وتقص علينا حكايتها ، فتمتعنا حتى الصباح .

"طوق الأحلام " رواية الانكسارات والهزائم الجميلة ، رواية أحلامنا المغتالة ، جمعها الكاتب في شخصية "يحيى" المقعد والذي انتهى عام 1967 ، مع رصد لكل الأحداث التي دارت في فلكها .

في الرواية عدة فصول مهمة عن السينما ، عندما كانت فناً له نكهته الخاصة ، فالروائي "شويحنة" يقلب صفحات منسية في ذاكرتنا عن هذا الفن الجميل ، ويعيده إلينا بذكريات فيها الحنين والشوق إلى أوراق الماضي ، فيقلبها لنا بمتعة تبلغ حد الإدهاش ، خاصة عندما يريد يحيى أن يذهب إلى السينما ، ويعبر بحلمه من الواقعي إلى المتخيل ، إضافة إلى سوقه إلى الجندية ونقله على حمار واسطة الركوب ثم العفو عنه ، لأنه مقعد ، نصفه السفلي لا يعمل .

إن "يحيى" الشخصية المحورية يجذبنا إليه بأفعاله التي تنم عن إنسان ذكي ، سريع البديهة، له حضوره المتميز ، يجمع حوله الأصدقاء ليدهشهم بأفعاله العجائبية والغرائبية التي تزين مجلسه ، منها أنه يتحول إلى مذياع ، ومخرج وحكواتي ، ومبصر في فناجين القهوة ، وحافظ للأسرار ، ومحب للحياة ، لذلك سنجد بعداً رمزياً في طيران الجنازة أمام نظر المشيعين . هذا الأفق الرحب الذي تجلى في يحيى ساعدته فيه شخصيات أخرى ، منها جموع النسوة اللواتي نبتن في بيئة شعبية وغذينها بأقاصيصهن وحكايتهن ، فكأنما ينسج الروائي قصصاً من ألف ليلة وليلة ، ليقدم عالماً ثرياً خصباً ملوناً بألوان قوس قزح . والرواية مليئة بالأعاجيب والسحر والفانتازيا ، ضمن الخيال الشعبي الذي يتقن الكاتب تصويره والإحاطة بأعاجيبه ، فيحيى منذ بداية العمل الروائي مقعد ، لكنه يقوم بأفعال تعجز عنها البشر والشيخ في هزيمة الـ 67 ، يجمع شمل الأولاد الأكبر منه سناً ، ويمشي بهم لمحاربة اليهود ، كذلك الجنازة تطير والأحلام على الأبواب ، كل هذا وغيره يبعثه إلينا الروائي محمد شويحنة عبر رؤية واقعية ، تقيس الأمور بحساسية عالية وفكر مستنير .

"محمد شويحنة" في طوق أحلامه ، أسرنا بتشكيلاته اللغوية النابعة من بساطة الحياة ورموزها ، من بساطة العمل الشعبي ، وهو إذ يغرق في التفاصيل الحلبية ليجعلها تعيش بيننا وهو القادر المتحكم من الفصحى . ولا يعني في نهاية هذه الدراسة إلا أن آخذ مقطعاً ثبت على الغلاف الخارجي للرواية : «في هذه الرواية تتقاطع المعوقات المتعددة وتتصادم لتمضي جميعاً إلى أحلام ... لكن الأحلام في ظل شرطها الاجتماعي تقود إلى شرك يسقط الأبطال فيه تباعاً ، لنصل بهم إلى حالة من إعاقة الروح ، ولتصبح محاولة الخروج من الشرك كمن يتحرك في الأوحال ، فيأتي سعي الشخصيات للمصالحة أو المهادنة عزفاً آخر على وتر الخيبة والحاصل واقع جديد من الانكسار والتشظي تسير الشخصيات نحوه في خانق ضيق حتى نهاياتها ».

إن رواية "محمد شويحنة" "طوق الأحلام" رواية البيئة الحلبية بامتياز ، أسكرنا بها الكاتب حتى انتشينا ، ويعرف أين يضع كلماته ، فإذا هي تنزل محلها ، والمكان لا يتسع إلا لها ، والحادثة مطرزة بأناقة العبارة وطيب الكلام ، ونستطيع أن نقول أنها رواية القصص القصيرة عندما تكون مسبوكة بشكل ممتاز ، يشدها خيط خفي منذ بدايتها حتى نهايتها .

طوق الأحلام ، رواية - محمد شويحنة - مركز الإنماء الحضاري - دمشق ، سورية ، 2005 - 204 صفحة ، قطع متوسط‏.

عودة