موقع شرفات

مراد حسن فطوم



في رواية "إلى الأبد و… يوم" الحائزة على المركز الأول في الرواية ، في مسابقة "دبي" الثقافية للإبداع في دورتها الخامسة ، يعمل الكاتب "عادل محمود" على تقليب الذاكرة في مرحلةٍ زمنيةٍ كتبتها تجربته الذاتية بمقدراتٍ سرديةٍ تحمل كثيراً من الشحنات الشعورية المغرقة في استقصاء حوادثها، وذلك لرسم ملامح تطور بنية النفس الإنسانية القلقة بوصفها مثالاً بشرياً يبحث دائماً عن خلاصه كما يقول: «لقد ترك أجدادنا الساعة الرملية، ونحن تركنا الساعات السويسرية، وذهبنا جميعاً إلى داخلنا. وفي لحظة الضعف البشري أمام الموت أصبحنا نقيس الوقت بالكابوس، وأحياناً ... بالأحلام الضائعة” وذلك بالتساير مع البناء الجغرافي الحسي للأماكن ذات العلاقة الوجدانية المباشرة مع اكتشاف الكاتب للأشياء والموجودات والحقائق “كقرية عين البوم التي سقط رأسه فيها» والتي بناها أجداده خوفاً وهروباً من الأتراك ، و"دمشق" الفقيرة التي بناها الريفيون بعيداً عن همٍّ الثروة المكنوزة في قلب المدينة التاريخية، بين أشجار الغوطة. بالإضافة إلى البناء المعنوي المعتمد على الكشف أثناء البحث عن الذات؛ كاكتشاف جزيرة "نيقوسيا".

وإن لم يحاول الكاتب أن يحيلنا من خلال عنوان الرواية إلى كتاب "ألف ليلة وليلة" فإن قراءتها تشير إلى استخدام الكاتب طريقةً متقاربةً من نهجها القصصي الشيِّق ، فهو يعتمد على التسلسل المشهدي للأحداث الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تتباعد دون مبررٍ سوى استنطاق الذاكرة الثقافية والاجتماعية ، وتتقارب لإعادة تكوين اللوحة الكلية، ولعل عملية تحويل هذه المشاهد إلى قصصٍ وحكاياتٍ أسطورية عن طريق تغليفها بالبعد الهوامي المبالغ به في بعض الأحيان ، هو أهم ما يجذب انتباه القارئ ويضفي على الكاتب سمةً أسلوبيةً تميز عمله، ومن ذلك ما نراه في حكايته عن الجد أبو أيوب الذي عاش قرناً كاملاً ؛ ولد في أول يوم به وتوفي في آخر يوم، وصداقته الروحية مع الأفعى سهيلة حارسة علبة التنك التي أنقذ فراخها من الموت، فقررت أن تحرس ذهبه وتموت في فراشه حال خروج جنازته؛ وكقصَّة إبراهيم الزمار الذي خطب علياء حبيبة منير، فبنى لها عرزالاً على شجرة التوت ومات في آخر أيام الزفة السبعة وقد انفجر قلبه من النفخ في ناياته، لتبقى شجرة التوت كشاهدٍ ومزارٍ لفجيعة علياء، وكحكاية أميَّة التي حُرمت حبيبها ، وتركت زوجها لتهاجر ثم لتكتب روايةً وتنتحر.

إلا أن القصة المحورية والأساسية في الرواية هي السيرة الذاتية للكاتب ، التي يشدها إلى وترين: غياب أخيه "منير" في حرب أكتوبر ، وحياة حبيبته الأولى كسارة البندق ، إذ تتساوق معهما الأبعاد الداخلية ، رغم أن تجربة حبيبته النفسية، وقصة اختفاء وفقدان منير وترقب عودته أبسط من الناحية الوجدانية من رحلته الذاتية الخارجية والداخلية ، التي تعري في خطواتها تاريخاً أقرب إلى فجيعة النفس والانكفاء حين يجد الخلاص في الانعزال والتفرد في عالمٍ صغيرٍ يمثل القلب المتماس مع طبيعته الأولى التي أمدته بنسغ الحياة ونسغ التواصل مع الوجود بالمعنى الصوفي. وهي سيرةٌ واقعيةٌ، يكتب بها أهم الأحداث في حياته بريشةٍ شعريةٍ، تسرد وقائع البدء والطفولة والبحث والحرب والحب والهزائم، وترسم جغرافية القلوب والأماكن؛ كبيت الطفولة” صالون واسع وأساطير”، الذي يعود للوقوف على أطلاله في نهاية الرواية، مع مشاهداتٍ راسخةٍ للبلاد التي زارها كالمجر، وقبرص، والجزائر، وتونس، والأردن.

هذه السيرة تستعرض المتغيرات خلال تلك المرحة العمرية.

إنها تكتب تاريخ الانقلابات والمعارك، والعمل السياسي السري، والهزائم في السجون ، وخيانات الرفاق ، والتوتر الحاصل بين الطوائف والمذاهب والأحزاب ، كالمعركة التي دارت في المرفأ بين العمال الموالين لمعلمي المرفأ وبين العاملين لأجل التشكيلات النقابية، في مرحلةٍ من مراحل الاصطراع السياسي الاجتماعي الطبقي، أثناء دخول الأفكار الحديثة إلى الوطن.

وهي روايةٌ واقعيةٌ تتميز بالصدق في عرض الأحداث، فهو يروي القصص كمراقبٍ وكشخصيةٍ فاعلةٍ، فيسمي الأشخاص بأسمائهم الحقيقية "الروائي حيدر، سليمان، ميشيل كيلو، منير، أبو إبراهيم، زهرة، الأستاذ محسن، سليم الدكر" أو يكتفي برمز الحرف الأول " الكاتب (ر)، المقدم (ج)".

وهنا نشير إلى أن الكاتب استفاد من أدوات العمل الأدبي لإخراج هذه الأحداث وتصوير أثرها في نفسه ونفس الشخصيات التي تبني العمل، كالكشف النفسي الذي حققته الكأس الأولى مثلاً " كان ذلك هو الكأس الأول في حياتي، المر والحلو في ليلةٍ واحدةٍ …. العلقم، عصير الدفلى … ونشوة الروح في آنٍ واحدٍ. ومن يومها تعرفت، ليس إلى الخمر بل إلى أخي الذي كان أجملنا جميعاً… بل أجملهم… أجمل الناس قاطبةً!"

ويدعم الكاتب السرد والمشاهد واللقطات بما يملكه من ثقافةٍ أدبيةٍ وشعبيةٍ على السواء ؛ فنرى أشعار "أبي فراس الحمداني"، وقصص التاريخ الأدبي، تزينها الأشعار الشعبية :

“ جمالي محمّلي وجراس بترن

وأيام البعيدي عالبال بتعن

ياريت يا زماني المضى بتعود وتحن

أما قادر يفرجها رب السما”

مع إبراز أهم القضايا والهموم التي تعصف في النفس والتي ضمنها صفحات الرواية ،كصراع الإنسان من أجل الحياة، الحب والحرية، هموم المرأة في المجتمع الشرقي الذي يسعى إلى تبخيسها وتدنيسها وتثليثها.

رواية إلى الأبد ويوم ، عمل أدبي يرصد متغيرات التاريخ القريب ، وقلق الذات ، تسعى لتركك على حافّةٍ جديدةٍ للدهشة ، عندما تنتهي وأنت تنتظر وتترقب غير المتوقع ، وإذا بقرد الحبر يشرب الدواة بما تحمله وتتضمنه من حكايات منتظرة، وهو ما يتوازى مع ذاتية الكاتب الذي يعرّف نفسه بـ"أنا جوادٌ لا يعود إلى الإسطبل في المساء إلا لكي يتهيَّأ مرةً أخرى للحلم بالبراري الشاسعة في النهار”.

إنها سيرة ذاتية حقاً في شكلها الخارجي، ولكنها من الداخل سيرة جمعية للوعي الاجتماعي المشترك لفئةٍ ما في هذا الوطن.

عودة