الحكائية و السردية في أعمال "يوسف الأبطح" الروائية

إن الروايات الخمس التي كتبها "يوسف الأبطح" تنضوي تحت مسمى الرواية التاريخية الاجتماعية.

فهي تؤرخ لمراحل تاريخية حدثت فيها أحداث عاشها هو في كثير من الأحيان وأحداث لم يعشها ولم يعايشها في بعض الأحيان، وتتفرع عن كل رواية منها قصص جانبية تصب في مجرى الرواية الأساس.

هذه القصص تفاجئنا بأمور كثيرة وتسلط الضوء على أحداث وشخصيات في زمان ومكان محددين.. مثل هذه الموضوعات تذكرنا بروايات جرحي زيدان الإحدى والعشرين والتي روى فيها الأحداث البارزة في التاريخ العربي والإسلامي ومنها "غادة كربلاء- الحجاج- زنوبيا"، فما المراحل التي يتناولها الروائي "يوسف الأبطح"؟

وما الأحداث التي تطرق إليها والبيئات التي حدثت فيها؟ وما الزمن الذي أطّر فيه كل رواية منها؟ أين بدأ الزمن وأين انتهى؟ لو تأملنا الأزمنة الروائية في هذه الروايات لألفيناها تتوزع على الحقب والسنوات الآتية:

- رواية "الكباد" "قصة حب دمشقية" تناولت الفترة التاريخية والاجتماعية بين عامي 1941- 2000.

- رواية "ديب الأبرش" من عام 1940- 1963 "بدء ثورة آذار"، أي منذ ولادة المؤلف، لكنها لم تنته بوفاته.

- رواية "المأزوم": من الحرب العالمية الثانية 1944- 1990 "اجتياح العراق للكويت".

- رواية "عقارب الوحل": 1954- 1975.

- رواية الواقعة "الجزء الأول": 8 تموز 1860 «بدء الأحداث»- تشرين الثاني 1960 "انتهاء الأحداث".

- رواية "التحدي" الجزء الثاني من قبلتي.. يا شام: من نهاية 1860- 1875.

وقد ابتغى من خلال هذه الروايات اظهار التجاذبات السياسية والعسكرية التي أدت الى حدوث ما حصل والأجواء المنعكسة، مع تصوير للحياة الاجتماعية من خلال الشخصيات الحقيقية التي كانت تقوم بتفعيل تلك الأحداث وتحريك البيئة الاجتماعية التي يعيشون فيها وإظهار المغزى الذي يبتغيه من الرواية، فالواقعة مثلاً كانت بأمر من اليهود لتكون ذريعة لحماية الأقليات وهجرة اليهود الى فلسطين، ولإقناع اليهود بالهجرة، وكان هذا قبل مؤتمر بال.. وعندما لم يجد اليهود فائدة من ذلك لجؤوا الى المؤتمر عام 1897.

- الحكائية والسردية: إن لكل رواية عنصراً بارزاً فيها يتميز عن غيره من بقية العناصر، وفي هذه الروايات نجد أن العنصر البارز فيها هو الأسلوب الروائي اللغوي الذي ينقسم الى الحكائية والسردية:

فالحكاية تعني الأحداث الواقعية أو المتخيلة «الموضوع» الى القارىء من خلال الرواية.

أما السرد فهو الأسلوب اللغوي، الذي يتبعه الكاتب في بناء الرواية للتعبير عن روحه وأفكاره ورؤيته للحياة.

لقد اشتركت هذه الروايات بمجملها بسمة عامة هي الحكائية، فهي نقلت أحداثاً جرت على أرض الواقع هنا وهناك، وكان الكاتب ناقلاً لها بكل دقائقها وتطوراتها وجزئياتها، ومصوراً لشخوصها بكل صفاتهم النفسية والجسدية.. أما الأسلوب السردي واللغوي فما من شك أن اللغة هي التي تصوغ كل رواية، واللغة ليست شيئاً جاهزاً ومنتهياً، بل إنها في تجدد وتطور مستمرين، والأديب يستطيع أن يرفدها بالجديد كما ترفدها الحياة وذلك من خلال خلق لغة في اللغة ، وكما قيل: إن لكل لفظة من ألفاظ اللغة معنى معجمياً هو تاريخها الطويل، الذي يمثل الجانب العام فيها، وعندما يعمد الروائي الى نسج رواياته بلغة يجب أن تكون طابعاً له ومميزة لأسلوبه، فقد يلجأ الى وسائل شتى يغنيها بمزايا يضفيها عليها.. بيد أن هناك فناً أدق وهو فن قديم جديد، فالكاتب قد يخرج اللفظة عن معناها المتداول ثم يقارب بينها وبين أختها من خلال سياق الجملة، وبعض الكتاب يحرص على أمرين: اختيار الكلمة المعبرة الطريفة، ونظمها مع اخواتها بشكل مثير وطريف، لكن المهم بالنهاية أن تحوي العبارة الصدق والمصداقية وأن تكون ممتزجة بالرصيد الشعوري والفكري والفني، وفي هذه الروايات- روايات يوسف الأبطح- نجد جوانب من هذه المزايا، كما نجد اقتران الحكائية بالسردية من خلال عرض الأحداث التي تجري مع هذه الشخصية أو تلك، ونقل الأحداث الى القارىء لهذه الروايات ليطلع على ما كان يحدث في دمشق في المراحل التي أسقط عليها شعاع الأحداث والشخصيات.. واتبع من خلال ذلك ايديولوجية لتقديم بناء روائي يمكن أن يقنعنا كقراء من خلال تعقد الأحداث التي تصنعها الشخصيات.

ويتفرع الأسلوب السردي الروائي عنده الى ثلاثة محاور: السرد- الوصف التصويري- الحوار.

- السرد: لقد صاغ الكاتب أحداثه ضمن سياق لغوي مشمس لتشكل هذه اللغة نسيجه السردي في أسلوب روائي محدد، ولم تكن هذه الأحداث تخييلية مغلقة على نفسها دون أي مرجع خارجي، لا بل كانت تنتمي الى الواقعية بشكلها وجوهرها ومضمونها.. وعلى الرغم من أن الروائي قدم لنا هذه الأحداث التاريخية الاجتماعية دون أن يكون فاعلاً في تغييرها وتطويرها حتى تحريفها وتغيير مسارها إلا أن الأسلوب السردي، الذي وشى به حكاياته كان يعطي للقارىء فضاءات جديدة لا عهد له بها، وبيئات عاش فيها دون أن يحيا في حاراتها وأزقتها.. كل ذلك من خلال الثوب السردي الذي نسج هذه الأحداث ونقل البيئات الدمشقية التي تنوعت في هذه الروايات وامتدت على مناطق متباينة في هذه المدينة العريقة، مع تصوير لكثير من الاختلافات التي تميز كل بيئة اجتماعية عن الأخرى والتي تظهر من خلال الشخصيات واستخدام الأمثال الشعبية لكثير من المواقف، مع العلم أن تحويل المثل العامي الى فصيح لم يسعف الكاتب في جعل الشخصيات تبدو تلقائية، بل على العكس كان هناك احساس بالتكلف والتصنع، الأمر الذي كان يذهب بريق المثل الذي يمتاز بالعفوية اللغوية في تأدية غرض تجاه حادثة وقعت ومناسبة يقال فيها: ومثل هذا موجود في ص 17 «أكثر من القرد لم يمسخ ربنا» ص18 في قول أم عبده لولدها «ربي يجعل دربك سلطاني يا حق يا من ليس له ثان» وص36: «هؤلاء الانكليز غير الله لا يقدر عليهم» وص51: «أكل العصي ليس كمن يعدها»..

ومن الأمور اللافتة في هذه الروايات نجد المصادفة وعدم التوقع وعقد العزم على الحدث، الأمر الذي يؤدي الى تطور أحداث الرواية كما فعل "نجيب محفوظ" و"أحلام مستغانمي"، فقد أورد في "الواقعة" مصادفتين أدت كل منهما الى انعطاف في مسرى الحدث وكانتا هامتين : الأولى عندما عاد عبده إثر الواقعة بعد غياب أحد عشر يوماً وهي تلك الأيام التي حدثت فيها الواقعة، وعند وصوله الى الأهل فوجئوا به لأنهم ظنوه أنه مات وكانوا يعدون لإقامة مجلس العزاء به، وفوجىء هو أيضاً بأن حمارته مازالت على قيد الحياة فقد عادت وحدها الى البيت بعد أن تركها في باب توما وهرب عند سماعه اطلاق الرصاص.. والمصادفة الثانية هي عودته في «التحدي» بعد احدى عشرة سنة غياب عندما ذهبت به قرعته في الجيش الى اليمن وأبيدت مجموعته في وادي صعدة ونجاته هو لأنه كان متأخراً عنها لقضاء حاجة، وكذلك فوجىء الأهل بعد هذه الفترة بأنه عاد حياً وكانوا يظنون أنه قد مات.. مثل هذه المصادفة تحرك المناخ العام للرواية وتلقي بظلالها على الأحداث والشخصيات، كما أنها تضفي المتعة على الأسلوب وبخاصة أنها تستند الى كسر التوقع في الحدث.

لقد طغى على السرد سرد تاريخي واجتماعي لأحداث وقعت في مدينة "دمشق"، وقد تخلل ذلك تضمين السرد أسماء الأحياء القديمة داخل "دمشق" أو أسماء مناطق قريبة منها وقرى مجاورة لها مثل: "جوبر- زملكا- عربين- عين ترما- حمورية" و"باب توما- قشلة- باب شرقي- برج الروس- السادات- المسكية- باب السلام- الكلاسة- الجرجانية- الصوفانية- السنانية- جامع أرغون- السنجقدار- التكية السليمانية"، كما تخلل السرد تصوير لبعض العادات الاجتماعية المتبعة في مدينة دمشق في الماضي وهي غير موجودة في الوقت الحاضر، فقد بيعت أرض "أبو عبده" بالمزاد العلني، لأنه لم يدفع ضريبته على الأرض «الويركو» لسنين عديدة، وهناك نقل لعادات يهود دمشق عندما يذهبون الى الكنيس في "جوبر" صباح السبت ، حيث يقول ص 20: «يسيرون خلف بعضهم بقبعاتهم الصفراء والحمراء ذاهبين الى كنيس الخضر في الحارة الشرقية في البلد..».

وقد اتبع في بناء سرده ثلاث طرائق:

- المباشرة: حيث رأيناه مؤرخاً يسرد من الخارج ويستخدم ضمير الغائب للحديث عن الشخصيات ومثال ذلك "الواقعة".

- السرد الذاتي: حيث جعل من نفسه وإحدى شخصيات الرواية شخصية واحدة، فسرد الحوادث بضمير المتكلم، ومثال ذلك "المأزوم".

- الوثائق: متمثلة بالرسائل أو اليوميات أو الأخبار أو الوثائق المختلفة التي رصدت تغيير الأحداث وتطورها وتبدلها، ومثال ذلك «ديب الأبرش- المأزوم"، وبخاصة اجتياح العراق للكويت، وقبلها حرب بيروت والحصار.

وأخيراً أقول: إن هده الروايات جاءت وثيقة تأريخية لمراحل عاشتها منطقتنا استطاع فيها الكاتب أن ينقلها بصورة سردية فيها الكثير من عنصر التشويق والإمتاع والفائدة.



د. ماجد أبو ماضي

عودة