بقلم : محمد الزينو السلوم

-----------------------

( أيها العابرون بباب حديقتي/إليكم كلماتي، تعانق أشجارَها المرتعشة/أمام عاصفات الدهر/كلمات تنبعث من جذورها/الملتصقة بالتراب/كي تحكي الآلام/وتكفكف ما في المآقي من دموع/صور ومواقف/بذور وبراعم/يتصاعد عبيرها في أنفاسي/كم سأفرح عندما نصبح أنقياء كالثلج/في جميع الفصول..؟! )

بهذا الإهداء الشفيف تبدأ الأديبة "سليمى محجوب" مجموعتها القصصية، بقصة عالم أبيض كالثلج بدأت تتألق في عالم الإبداع في مراحل متأخرة قليلاٌ عمّا يجب، لكن الإبداع يبقى إبداعاً في كل زمان ومكان، وخاصة إذا ما جاء في لغة تمزج بين الحداثة والأصالة كما هو عند الأديبة التي تجرّب وتجرّب في جميع الأجناس الأدبية من ( شعر ورواية وقص..الخ ) وهذا ما ينسحب على الأديبة(سليمى)..

في(الحرير الأبيض)القصة الأولى في المجموعة تبدؤها بالقول : / أردت أن أزيح ضجيج الملل المتواصل، وأنا أطوف في حارات حلب القديمة. ما زالت أزقّتها تلتصق في ذاكرتي مثل وشم عصي ٍ على الزوال،. ما زالت بيوت الأجداد تطوي جسدها صوب دفء السقوف الواطئة وقد تراصّت قبابها المنتفخة بأدق الذكريات، والحكايات، والصور، والأمنيات الملونة ..الخ /

وتابع ذكر بعض الأسواق فيه مثل /سوق الصوف/و/سوق العطارين/ و/وسوق الأقمشة/وهي أسواق في مدينة حلب - كما نعرف – ثم تتحدّث عن الغلاء في الأسعار قياساً إلى زمن مضى، فيما يتعلق بالأقمشة، وحتى الشقق،وتنتقل بنا إلى وصف للبائع فتقول:/كان البائع أسمر الوجه، نحيل البنية، عيناه داكنتان، وجبينه ضيّق، من ينظر إليه يخاله كئيباً منطوياً على نفسه، يحاول التخلص من ظلمة سوداء نخرت شقق حياة أمضاها بين أسوار المدينة/ وتسأل نفسها أسئلة، وتستغرب من مبالغته في الكلام، وتقرر ن تدفع له السعر الذي طلبه، وقبل أن تنصرف يعود ليحدّثها عن أملاك والده السابقة لبعض الدكاكين التي لا يزال لها ذاكرة وتاريخ في نفس المكان،والتي كانت تدرّ ربحاً وفيراً، وكيف بعد أن والده بعد أن توفي فهدموها بالجرّافات التي صعقتني وأجبروني أن أبني مكانها، فرضخت لهم وأنا وحيد أتذوّق مرارة الفراقين الأبديين.. فراق والدي، وفراق../ وتقاطعه قائلة:/أنا أسألك عن ثمن القماش،وأنت تشرح لي مشاكلك الخاصة، فردّ عليها بلهجة مؤدّبة:/هذه دعاية للسعر الجديد في هذا المشهد الشامل..ويستمر الحوار بينهما في ما يتعلّق بسعر القماش وأسعار الشقق والمفارقة بينهما، ما بين اختلاف وإتلاف .. إلى أن يصل إلى درجة الملل - كما وصفته – لكنهما يستمران في حديهما الأقرب للحوار.. ما بين سؤال وجواب .. ويفهم من حديثه أنه بائع ثرثار،يحب الكلام لا أكثر، وكأن القاصة تريد أن تشير بشكل غير مباشر إلى ما فعله الزمان بالمكان ( مع مرور الأيام )، وفجأة تبادر بالقول له:/لقد ألغيت رغبتي في شراء غطاء الصلاة، فاختر لي لوناً يليق بجمال قوامي وسحر أناقتي التي وشّيتها بزخارف قولك..الخ/ويتابع الحوار من جديد ..ويسألها عن لون القماش التي تحب .. ويقر أن يهديها قماش /البروكار الأخضر/التي اختارته .. ويتطور الحوار ليصل فجأة إلى رغبته في الزواج منها إذا كانت توافق .. فينساب صوتها الناعم مغلّفاً بحدّة مفتعله - كما تصفه هي – وترجوه أن يخبرها عن ثمن قطعة القماش، ويكر سؤاله لها عن موافقتها على الزواج .. ويستمر الحديث بينهما ما بين أخذ ورد، وينتقل البائع إلى الحديث عن الشقة, والمهر،وأنها جاءته وهو في رغبة إلى من ينقذه من وحدته.. ويتبيّن لها أنه تاجر يملك بعض الشقق في نفس المكان، ويسألها إذا كانت ترغب في الذهاب معه لرؤية إحدى هذه الشقق، وتذهب، وتشاهد الشقة، وتصرخ وهي تتنقّل في أرجائها:/يا له من ذوق رائع، البناء والمفروشات، وكل قطعة منها تغتسل بعطر ذوق الرفيع.. لهفة الحنين تمنحها الرغبة في عناق قلعة حلب، وهي تطلّ عليها من كل النوافذ والجهات ( إذن نحن أمام تنامي القصة والحدث رويداً، رويداً بشكل تصاعدي، هادئ، ومفاجئ أيضاً ) لنستمر في مشاركة القاصة ( في رحلة بطلة القصة ) لنكتشف النهاية ..!

تسأله من جديد: هل ستبيع بعض الشقق ؟ أجاب : لا، سأرصدها للسياحة، للسياح الوافدين.. فتقول: لن أشتري قماشاً، بل سأساومك لشراء شقة أذهلتني بسحرها، ومكانها، في هذا المكان القديم، الذي يطلّ على قلعة حلب الصامدة التي تصارع المستحيل ..الخ. يبتسم مستبشراً وهو يراها تطوف في الآفاق، ويقول: ألم نتفق على السعر ؟ ستزيّنين عرش منزلك في هذا البناء، أميرة عربية،متوّجة في أحضان الدلال..

تغرق نظراتها من جديد في زوايا الشقة التي ستسكنها، فتنتشي، وتعيد النظر للقلعة وتتشبّث بلهيب العناق .. وتنتقل بنا في مخيلتها إلى القلعة، وتزرع خطواتها فيها من جديد، في عودة لذكرياتها وهي طفلة، وتطلق تنهيدة ارتياح..وتسمع صوته من جديد وهو يقول:/كم متراً تحتاجين من الحريرالأبيض كي نعدّي ثوب زفافنا ؟ وبلا وعي، تمدّ يدها بلهفة نحوه، تعتصر يده يدها، في حين كان قلباهما يرقصان مع أنوار تتسلل من شقوق النوافذ المغطاة بستائر مضاعفة وأنيقة من المخمل الخمري، و(الشيفون) السكري، والحرير الأبيض النفيس ..الخ..وتنتهي القصة بإشارة إلى تاريخ كتابتها، وإلى أنها نشرت في مجلة الأسبوع الأدبي في عدد،وتاريخ حديثين.

وأشعر بدوري أن أحداث القصة، وتناميها، وأسلوبها.. كل هذا دفعني لمتابعة قراءتها كي أصل إلى ما انتهت عليه هذه القصة العجائبيّة - إذا جاز التعبير – وهي واحدة من ثلاثين قصة في المجموعة، بل هي الأولى، فماذا أفعل: هل أعتبرها أنموذجا، وأكتفي بها لضيق المجال - وهي معدّة للنشر في إحدى الصحف – قلت في نفسي: سأتابع رحلتي في قراءة باقي قصص المجموعة،لأقرر بعدها، وأحزم أمري..

وبعد قراءتها(أي المجموعة القصصية)، وجدتني أجنح إلى اعتبارها أنمـوذجاً، مع الحديث عن باقـي القصص - بشكل عام – من حيث الفنية، والأسلوب .أتابع رحلتي مع الأديبة من قراءة بعض القصص الأخرى مثلتجلّي الأمنيات - حب يخطو في السراب – ذكريات يغزوها الذبول – متى ستعود – العودة المبكرة) ثم أنتقل في رحلة ثانية وثالثة فأقرأ كل من (ثمن الخبر.. - الجنون هو الحاسم.. - غربة الروح..- حب وإعجاب - عالم أبيض كالثلج - امرأة تحقق ذاتها - إعلان - سفرة غير ممتعة - عتمة الأسئلة ) وأتوقف عند قصة(عالم أبيض كالثلج) عنوان المجوعة : وكعادتها في بداية كل قصة أن تبدأ بلغة وصفية، شفيفة، أقرب إلى اللغة الشعرية،حيث تقول: ( وقفت منذهلة، راحت تخترق بنظراتها آفاق الدار التي عاشت في رحابها ثمانية عشر عاماً، صور كثيرة نسجتها ذاكرتها، وخبأتها لموقف تنتظره منذ سنين، منذ فتحت عينيها على الحياة، كان الألم مزروعاً في جرحها..الخ) وتتابع في وصف مع تنامي الحدث رويداً رويداً بأسلوب شائق، وتتابع رحلتها مع كل من (زياد و وندى)في رحلة زواجهما، ويبدأ منذ الأشهر الأولى الخلاف بينهما بسبب جهل وغرور الزوجة، ويكبر إلى درجة الطلاق، وتتزوج من(أنور) الذي قاده خطاه إلى السجن، فتلجأ إلى العمل لتصرف ‘لى نفسها، وتدفع عن زوجها بعض الالتزامات المادية، لجأت إلى مكتب خدمات، فقادها إلى أسرة لديها عدداً من الأولاد، وبالفعل باشرت العمل كمربية لثلاث بنات، ونجحت في رعايتهن، (ومن الجدير ذكره، أن القاصة تعود بين الفينة والفينة إلى لغتها الشعرية في الوصف)، لكنها أحسّت بآلام المخاض، فصرخت.. وفي إحدى غرف المستشفى، كانت ترقد مع مولودتها (أمل) وحاولت فيما بعد تبديل أسلوب حياتها للأفضل، ووجدت رعاية وعطفاً من صاحب المنزل، فعاهدت نفسها أن تكون أماً لأربع بنات، في عالم أبيض.. بل عالم شديد البياض كالثلج .. وتنتهي القصة).فالقاصة هنا تنتح بعض قصصها من الواقع الاجتماعي، وسارت على نفس الأسلوب الفني الذي اعتمدته في القصة أتابع رحلتي من جديد ، وأرحل مع القاصة في زورق الإبداع مروراً بباقي قصص المجموعة حب بلا وردة - صور - بطاقة سفر - قرار عجيب - عواطف.. - معاً في الوطن - الدم المغسول – نساء بين النجوم – عشق عنبري .. الخ) حتى أصل إلى شاطئ النهاية، وهي رحلة ماتعة، وشائقة، فيها ما فيها من التنويع والتلوين في أحداث كل قصة من المجموعة، لكنها في الواقع قريبة من بعضها من حيث الأسلوب الفني كاعتماد الوصف في لغتها الشعري، وتنامي الحدث .. واعتباراً من قصة حب بلا وردة نجد القاصة تبدّل في أسلوبها، فتكتب قصصاً لا تتجاوز الصفحتين – وكانت تعتمد من قبل قصصاً يتجاوز أحياناً عشرة صفحات ، كما في قصة (الحرير الأبيض)، فهل حققت في ذلك شيئاً ..؟

في الواقع : الجواب نعم .. فلقد انتقلت بنا إلى أسلوب القصص القصيرة جداً الي يلجأ إليه البعض في هذه الأيام،وبرغم أن أدوات مثل هذا النوع من القصص لم تكتمل بعد - مثلها مثل قصيدة الومضة – وما زالت قيد التجربة، لكن القاصة أكاد أجزم أنها قد وفّقت إلى حد ما في أسلوبها الجديد من حيث الفنية، وخاصة فيما يتعلق بالتكثيف، الذي بدا لي أنه يحقق غاية القص، وبلغة أكثر جمالاً وشفافية..ففي قصة(رغبة) وهي آخر قصة في المجموعة لطالما تحدد المستقبل أمام عينيها، تجلّت أمانيها في أن تصبح طبيبة يزدهر العلم والطب باجتهاداتها ونجاحاتها. وبكل الانتعاش والرغبة حصلت بعد دراسة وجهد على درجات زاهية، أهّلتها لأن ترسم حديقة من البهجة، وهي تقدّم أوراقها لكلية الطب المطلوبة . فرحت، صممت، كفكفت دموع التحدي في فضاء غمرة الأقاويل . ونسيت رحلة التعب وهي ترقب خطوات الزمن الآتي . ولكن .. ما أن تابعت رصد نجوم التفوّق من جديد وتقدّم لخطبتها عريس غني حتى باعت أمانيها في سوق الطيش والتهور، وقررت أن تصبح ربّة منزل مدلّلة لها أفكار خاصة..( وتنتهي القصة ) والقصة كما لاحظنا لا تتجـاوز بعض الأسطـر .. لكنها أرادت أن تقول أمراً، وقد فعلت..!

ترى هل استطاعت القاصة بأسلوبها الجديد أن تحقق ما حققته القصة الأكثر طولاً من قبل؟ أم أنها وفّقت أكثر في جـديدها ؟ وهل نجحت في أسلوبها القصصي الذي اعتمدته في مجموعتـها القصصية ؟ أسئلة من حق القارئ أن يطرحها، وخاصة وأن الأديبة تكتب أكثر من جنس أدبي، كما هو ملاحظ، وهل مثل هذا الأمر يدفع في إبداعاتها إلى أمام ؟

أعود قبل نهاية رحلتي إلى ذي بدء، فيما يتعلق بالقصة الأولى لأقول: لقد نجحت القاصة ولو نسبياً في تحقيق بعض الفنية من خلال الأسلوب الذي اتبعته في التلوين والتنويع وخاصة في قصصها القصيرة جداً،ولكنها تحتاج إلى الاستمرار في تطوير تجربتها هذه، وهو أمر نحتاج إليه جميعاً في رحلاتنا الإبداعية.

وأختم بما كتبته على الغلاف:/لم أكن يوماً حاقدة على نفسي ولا عدواً لها.. ولكن كانت ولا زالت لدي كرامـة سامية عميقة تجعلني كما يقول أحد المتصوفة أحس أنني المتوّج رغم أن الآخرين هم المنتصرون ..) في اللحظات الحرجة التي تفصل بين اليأس والألم. نحاول التشبّث بالقوة والصبر. ونظل نكافح .. لكننا نظن أننا قادرون أن نسيطر على قنوات عقولنا لنحسم مصيرنا.وبطريقة عشوائية يكون الجنون هو الحاسم في بعض المواقف/.

عودة