اتساعات السرد في رواية "التفاحة الرابعة بعد منتصف العمر"

موقع جريدة العروبة

خليل الشيخة



رواية "التفاحة الرابعة بعد منتصف العمر" هي الأولى للطبيب "نصر مشعل" وهو قد حاز على جائزة "نبيل طعمة" للقصة القصيرة من قبل.

تجمع هذه الرواية ملاحم وأحداثاً ضمن فترات زمنية متفاوتة ومكان محدد هو "لبنان" ، تسرح من خلاله الشخصيات لتقدم متضادات من القيم الاجتماعية والأخلاقية تصب في بوتقتها

الهزيمة والمقاومة، الإرادة والضعف البشري، السمو والانحطاط الأخلاقي.

كل هذه القيم حبكها الكاتب بطريقة سحرية ممتعة تدل على تمرس في الأدب الروائي. أحداث الرواية والشخصيات: تبدأ الرواية بولادة "فرقد أغا" وما يعتريه من احتفاءات شعبية تجعل من أهله أثرياء من خلال الجهل المسيطر على الناس، حيث يظنون أنه كائن يمتلك مزايا فوق الطبيعة البشرية. عندما يكبر يصبح من كبار المهربين والأثرياء في منطقة حلبا.

يتزوج ابنة "نبهان البرشاوي" ومن ثم يخونها مع زوجة "زابيل الأرمني".

هنا تكتشف زوجته "زبيدة" وتنتحر.

"زبيدة" هذه شخصية محورية في الرواية ومحركة للأحداث لكنها ثانوية في السرد الروائي.

لأنها تؤثر على مسار حياة بطل الرواية "شاهين الماوردي" وسلوكه حتى النهاية.

هنا، يتشكل وجه آخر مناقض "لفرقد" وجماعته هو "شاهين" الذي يذهب إلى المقاومة في الجنوب من أجل "زبيدة البرشاوي" ويكون تحرير الجنوب عربون صداق لها.

لكنه يكتشف أنها تزوجت من "فرقد" فيعمل في مزرعته خادم كلاب متخفياً كي يسلّم "زبيدة" أوراقا كتبها في المعتقل الإسرائيلي.

وبعد أن يعرف أن فرقد تخلص من "زابيل" لينفرد بشهيرة يسمم الكلاب ويهرب إلى موطنه في "نعص العتيق".

وتهرب "شهيرة" أيضاً في الفترة ذاتها وتفتح كازينو تسميه "كازينو الانتقام".

"شهيرة" هذه ارمنية الأصل وأسمها "كارو" يتيمة تتزوج من قريبها "زابيل" الذي يعمل مثل والده سائس خيول في مزرعة فرقد أغا.

شخصية أخرى هو عصفور صديق "شاهين" الذي كان يعمل في مقهى وهو الناصح الأساسي له.

شخصية هامة، هو "فياض قاديش التدمري" الساعد الأيمن ل"فرقد" الذي يقتل في النهاية.

يأتي موت "فرقد" على مراحل بعد إصابته بداء برغر ، الذي يسبب موات أعضائه الواحد تلوى الآخر، خاصة عندما تقرأ عليه النبوءة العرّافة التي تقول له: سيصبح لك أكثر من قبر. تقنيات السرد والحوار: تميزت الرواية بتقنيات سردية جديدة أشبه ما تكون بسرد الروائي "غابريل ماركيز".

دقة الوصف واتساعه وتداخله مع الحوار يشكل امتدادات من الأحداث الروائية.

هذا الوصف يأخذ حيزاً سردياً يتطاول ضمن المقاطع وفي الغالب يأتي في المقدمة أو المتن كما ورد في بداية أحد الأجزاء لوصف المكان: "ونعص العتيق .. الموشي بالمستنقعات والطحالب، ذلك النشّاب المقذوف من قوس كوني سديمي بداية خلق التكوين، باتجاه حدود منتصف الدنيا"(ص95).

أو ينتقل الوصف للشخصيات كما ورد وصف "شاهين" في بدايات الرواية: « الرجل الغريب، طويل القامة، مازال جسده رغم مشيته المتثاقلة يعكس قوة قديمة، جهم المحيا وكأنه في مأتم .. لدرجة تخاله هو الميت، ووجهه ناحل مغضن مما أضفى عليه هرماً مبكراً، فبدا كأنه قادم من سنوات عجاف»(ص37).

وبالطبع يستمر وصف الرجل بضعة سطور إضافية.

حتى أثناء السرد العادي نرى هيمنة السارد على لغة القص في إسقاطات لها أبعادها: "رغم أنه لم يشبه أحداً من أخواله أو أعمامه أو أياً من المقربين ...حتى ليخيّل لشخص غريب أنها مجرد تراجيديا مخطط لها بطريقة حسابية تختزل فيها ضمائر البشرية بمعادلة واحدة وهي إن الإنسان في هذا الوطن سيصدق أكاذيب من نمط حَبَل زوجة هواش أغا بعد موته" (ص12).

ويتمثل الزمن في السرد على أنه شخص له أحاسيسه يراقب ويحاكم: "كان الزمن حينها يقبع قانطاً متفرجاً على البشرية أشبه بامرأة حالمة، فقد نضجت بؤرة السادية في النفوس"(ص256).

وينساق السارد إلى التوحد مع البطل في شخصية واحدة كما يتبين من بعض مقاطع السرد سواء في المونولوج الداخلي أو في لغة الراوي: "يقولون الذاكرة هي معتقل الجسد وعندما ينسى الإنسان إنما يتحرر من عبوديته"(ص400).

بشكل عام تميز السرد بخيال وصفي رائع تمدد واستطال في وصف المكان والزمان والشخصيات بأناة واحترافية حيث ساعد هذا على تقديم لغة حوارية متنوعة تتأرجح مابين اللغة الفصحى والعامية كما ورد في صفحة(167) عندما ثار غضب نبهان وقال لشاهين:«انقلع من هون ولك كلب» أو يتحول في نفس الصفحة إلى لغة فصيحة على لسان الشخص ذاته: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، من أين جاءتني هذه المصيبة؟.. هل عندك مدفأة يا شاهينو؟» .

ونرى هنا كيف يخدم الحوار بسبر بنية الشخصية، ويتواشج مع السرد ليشكل عالماً روائياً زاخراً بأحداثه ومعانيه. خاتمة قال "سارتر" مرة أننا لا نستطع أن نتجاوز الكرب لأننا نحن الكرب ذاته. فالرواية تحكي وبشكل مفصل عن الكرب والحزن البشري والخيبات في قوالب بطولية ايجابية ترى أن الحق لابد

أن يسود وأن الأكاذيب والشر لابد أن تندحر باندحار "فرقد" ورجاله.

فقد واجه هذا الرجل النهاية المأساوية في آخر الرواية لما بنى من شرور في حياته. الرواية دخلت بقامة سامقة عالم القص بتقنيات سردية جديدة ، وإن الاستطالات الوصفية قد أعطتها طعماً روائياً ممتعاً منذ البداية وحتى النهاية. وتتابعت الأحداث بشكل منطقي ضمن حبكة محكمة من بداية ووسط ونهاية وما تخلل ذلك من استرجاع وتذكر والعودة إلى الماضي. كل ذلك جرى بأسلوبية راقية جمعت في كنفها خبرة حياتية هائلة وتحليلاً عميقاً للواقع والبشر. ونرى هنا أن الكاتب يفتح من خلال هذه الرواية بؤرة واسعة في عالم القص والأدب بما يمتلكه من أدوات في الأسلوب واللغة الروائية.‏

عودة