رؤى صغيرة

هل تنضج الأحلام ؟

هل تبدأ صغيرة و بريئة ثم تتقلب مع تحولات الزمن فتشيخ مثلنا ، هل تصبح لحنا قديما ينقر شغاف القلب كلما داهمه الحنين ، هل يمكن للأحلام أن تستعار و أن تذهب و أن تتحجر ؟

هذا ما ستخبرنا به المجموعة القصصية (رؤى صغيرة) بقلم د. "حميد الحاج".

بدأت قصة الرؤى في المنتدى حين اكتشف كل منا أن اسم ابنة الآخر رؤى ، و بين عتبه علي لأني لم أقترح هذا الاسم حين كان يبحث عن واحد لطفلته القادمة، و بين مطالبتي له ( بالدجاج و الكماج ) لأني سبقته إلى الاسم ، طلب مني عنواني البريدي لإرسال الضريبة. تأخر البريد شهرين كاملين و حين وصل سالما، توقعت أن أجد دجاجة بصيصانها مع ربطة كبيرة من الخبز المشروح!

لكن، بكل تأكيد عثرت على ما هو أجمل !

صدرت المجموعة في عام 2007 م، تقع في ثمانين صفحة من القطع المتوسط ، و تضم بين طياتها إحدى و عشرين قصة . يحمل الغلاف صورة لقماش الساتان الناعم ، و تتدرج ألوانه بين الوردي المائي و الأصفر ، أما عنوان لوحة الغلاف فهو طبيعة صامتة !

بدأ حميد مجموعته بقصة ( ضياع) و أنهاها ب (ألحان عاشقة ).

يتراوح السرد في المجموعة بين الواقع و الخيال و تقوم جميع القصص على حلم أو أمنية ، يغوص خلالها الكاتب في دهاليز الوعي و اللاوعي . كان المونولوج هو الصوت المعبر عن شخصيات القصص باستثناء قصتين.

يجد المتتبع لمواضيع القصص أنه يمكن تقسيمها إلى الترتيب الذي سأتبعه في المقال الحالي و الذي يخالف ترتيبها الأصلي.

رؤى رومانسية

يناقش الكاتب في قصة ( بطاقة في عيد الحب ) علاقة الصداقة حين تنقلب حبا و حين تكون الأنثى أكبر سنا من حبيبها . تخوض البطلة صراعا نفسيا بين عقدة أوديب- و إلكترا ، فتقرر الامتثال لصوت العقل ، إلا أن الجملة التي على البطاقة:

( أختي الكبيرة ( بحبك ) ماما السغيرة بهبك) ص 30

تقلب المعادلة رأسا على عقب !

في قصته ( صحو) يعود بنا حميد إلى القضية الأزلية في تقييم الشرف ، فبطلة القصة تتعرض للاغتصاب في صغرها. يتأجج صراعها الداخلي ، هل تخبر خطيبها بالحقيقة أم تصلح ما تم إفساده قبل موعد العرس بخمسة أيام ؟

تنتهي القصة نهاية سعيدة ، لكني وجدتها غير واقعية في مجتمعنا الشرقي مهما كان الشاب متحضرا و ليبراليا ،و عادة ما يتبع هذا التنازل تنازلات أكبر من جهة الحبيبة. أجمل ما في القصة هو الربط بين غضب الطبيعة و صحوها و مشاعر البطلة ، فبعد أن تمطر و ترعد أثناء مصارحة البطلة لخطيبها بالحقيقة ،تنتهي القصة بانقشاع الغيوم و ظهور الشمس في شهر آذار.

.أما حنان فقصتها قصة .

(هي ضحكة رقيقة و حديث حلو، و الميكروباص يهرول في سباق ماراثوني ، حنان في الجامعة و أنا في الأرض ! ) ص39

هكذا يستهل الكاتب قصته الكلاسيكية ( لقاء حنان) . يبدأ الحب صامتا و من طرف واحد في السنة الجامعية الأولى ، يمر بعدها البطل بظروف صعبة تضطره إلى ترك الجامعة و التخلي عن كتابه الشعر . لكنه يلتقي بحنان صدفة في الميكروباص فيتحادثان.

( حنان تبتسم ، و تتدحرج كرتان دقيقتان شفافتان من بين الكحل و الأهداب . الميكروباص يترنح نشوان بإدراكه خط النهاية و أنا في حيرة أين ستكون نهايتي ؟)

هذا اللقاء يبعث فيه روحا أخرى تعشق الأرض و الشعر بحنان !

في قصة ( حلم ظهيرة سبت) ، تكتشف الطالبة التي تحب أستاذها أن " العين ترى ما تحب أن تراه ! " ص68، و أنها كانت تحلم حلما ورديا انتهى بمجرد خروجها من الحافلة و دخولها مبنى الكلية ..



رؤى واقعية

تضم الرؤى الواقعية قصصا من واقع الحال . شخوصها أناس بسطاء سحقتهم الحياة ، فسعيد في قصة " قضاء سعيد " راض بقسمته من الدنيا ، متوكل على الله في مرضه، مستسلم لمصيره . يمر البطل بحشرجات الموت ، لنكتشف في نهاية القصة أن اسمه الأصلي في شهادة الميلاد كان (عبسي) !!

و من سعيد ينتقل بنا حميد إلى أم أحمد الأرملة الشابة التي تصاب بورم حميد في الرحم يجلب لها القيل و القال. تبقى (أم أحمد حبيسة المنزل فعيون الناس أفواه جائعة و الكلام دبابيس تثبت أم أحمد إلى جدار اليأس.) ص69

القصة ( دبابيس) مستقاة من واقع حميد الطبي و قد عايشت بنفسي قصة حقيقية مثلها في سنوات دراستي ،لكن الحال انتهى بمريضتي إلى مخفرالشرطة لحمايتها من بنادق الغاضبين !

أما قصة ( مأساة حكيم ) فتدور حول أستاذ في الطب يصاب بالسرطان ( اللوكيميا ) ، و أكبر مشكلة يواجهها الأطباء حين يتحولون إلى مرضى أنهم يعلمون عن أمراضهم كل شيء!

قصة ( المحروم) و (صابون ) تتناولان قيمة جميلة ، فما معنى أن تمتلك كل شيء و تفتقد إلى قيمة معنوية تحتاجها جدا و لا تجدها إلا في الفقراء.

(المحروم) هو مراهق لديه كل شيء و يفتقد إلى الحب بينما صديقه الراوي لا يملك شيئا و يمتلئ بالقناعة و الرضا. الجملة في خاتمة القصة جاءت زائدة و لو أن حميدا تركنا نستنتجها لكانت القصة أشد وقعا .

رؤى سيكولوجية و رمزية

تشكل هذه النوعية من قصص حميد نصف المجموعة. إذا تصفحنا مواضيع القصص سنجد أنها تدمج الغربة عن أرض الوطن بالغربة الذاتية. الغربة الذاتية اختلفت أسبابها فهي إما أنها ناتجة عن أزمة ضمير كما في قصة (ضياع)، أو عن التشظي بين روحانية الحب و عقلانيته كما في قصة ( المقدسية) ، أو عن أزمة الهوية الوطنية كما في قصة ( أنا روبوت) ، فالروبوت ينفذ ما يؤمر به لكنه يشعر و يحس و يحزن ليكتشف بالنهاية أنه روبوت عربي !

في قصة ( دمعة حالمة ) يطرح "حميد" فكرة الهجرة إلى أمريكا ، أرض العسل و اللبن و الفردوس الأخضر، الصراع يشتد بين رغبة الابن و الرغبة المعاكسة ( الأب) و الذي يرمز إلى الوطن. ينتهي الحلم بأن يتواصل مع أمه بحبل سري عن طريق النت الإليكتروني.

( أراهن يا حميد أن البطل سيجد أن الحياة عملية و جدية أكثر من الحياة في الوطن بعد عشرين عاما من تأليف القصة ! )

يناقش الكاتب هاجس الاغتراب - و كيف يرى الآخرون ما لا يراه المغتربون- في قصة ( الحكواتي الأخرس) و التي أجدها أقرب القصص إلى نفسي رغم التجريب.

( ألحان عاشقة ) قصه تمزج السيكولوجيا بالأدب و لأنني أخشى مرضى العيادة النفسية و أطباءها فلن أجرؤ على تفسير القصة.



خلاصة ؛

كتب حميد مجموعته في التسعينيات و نشرها بعد عشرة أعوام على الأقل. لغة حميد لغة شعرية في أغلبها. استخدم التكثيف في معظم قصصه. كان الحدث ثابتا و يسير سيرا هادئا معتمدا على المونولوج. اهتمام حميد بالطب النفسي يظهر جليا في بعض القصص حيث كان يلجأ إلى الرمز للتعبير عن فكرة عامة أو إلى تداخل الشخصية و انقسامها إلى شخصيتين و كأنها شخصية فصامية. المجموعة في مجملها جميلة و تطرح أفكارا متعددة و متنوعة . اسم المجموعة موفق جدا فهي ( المجموعة ) بين الحلم و الأمنية و الرؤيا.

هنيئا لحميد زميل الطب و الأدب مجموعته الأولى ، و كما قال لي في إهدائه ،

" من أجل رؤى أكثر إشراقا" .

إن شاء الله يا حميد !

بان حسني

عودة