"عدنان كنفاني"، الفلسطيني، اللاجئ،.. يحمل جرحه ويمضي صعوداً في درب الحلم، يفتّش عن خبايا الإنسان في نسيج الإنسان، فيدخل مع أبطاله إلى ذواتهم، يستشفّ منها الصفاء.. أو الجريمة في رحلة بحث عن ذات كلّ واحد منّا. رحلته منذ وعى الكتابة.. الوطن.

الأديب "كنفاني" من الجيل الذي لفظ أحلى سنوات طفولته على أسلاك حدود لم تفصله عن أرضه فقط، بل فصلته عن أشيائه وطفولته ولم تبقِ في قاع ذاكرته غير الذاكرة. فاشتغل عليها، وكرّس من خلالها قيمة المكان.

كتب نبض أوجاعه بدفق إبداعي شفيف، فيمسك بتلابيب القارئ حتى الكلمة الأخيرة ، ويجعل منه شريكاً في عملية الإبداع، إذ يترك له كامل مساحة التخيل والصوّر وإسقاط مكنوناته على بعض أبطال قصصه، فيصبح القارئ شريكاً أصيلاً في عملية الإبداع.

في هذه المجموعة، كتب "عدنان كنفاني" كما عوّدنا من خلال مجموعاته القصصية السابقة عشر قصص.. كلها تعزف على أوتار الوجع، حتى وهو يمضي في كتابة ساخرة يخِزُنا.. ويلمس حدّ الوجع، ثم من حيث لا ندري يسقطنا في قلب الوطن، أو يلامس ذلك الخط الفاصل بين الإنسانية بمعانيها، وبين سحق هذه الإنسانية بفعل غزو عسكري أو ثقافي، أو من خلال مآسي اجتماعية أو حتى حكايات حب رومانسية.

تلوّنت مجموعة "أخاف أن يدركني الصباح" بصور شتى، لكنها كلها تنقل لنا سمات وأحداث من صميم مجتمعنا، يتحدث فيها عنه وعني وعنك ، وعنها وعنهم . نجد أبطاله في زوايا حيواتنا، معنا ينبضون حياة وفرحاً وألماً. قصص المجموعة على التوالي:

(أخاف أن يدركني الصباح.. ريختير ومقاييس أخرى.. الطابق السابع.. من سرق الكيس الأصفر.. أرقام وكومة حروف.. حيوانات أليفة.. بريق السنابل.. كان يوم.. ثمن الوظيفة.. وجعي هو المكان.). المجموعة القصصية من إصدار إتحاد الكتاب العرب..

سوسن البرغوثي

نشرت في الحقائق الثقافية

جريدة الخليل/ فلسطين



******

تتألف مجموعة "عدنان كنفاني" القصصية / أخاف أن يدركني الصباح/ من عشر قصص تتنوع فيها المواضيع، ويتلّون وفقها الأسلوب، وتتباين فيها بنية النص. ومع ذلك، يمكن من الناحية الموضوعاتية اختزال المجموعة بأنّها أنشودة التزام لا محدود بكل القضايا التي تؤرّق الإنسان العربي، بدءاً من القضية الكبرى، ألا وهي قضية الوجود، وانتهاءً بالقضايا الأخلاقية والحضارية والاجتماعية، كمراعاة الذوق العام، والحفاظ على البيئة، ورفض الفساد بكل تجلياته؛ مروراً بالقضايا التي تؤرّق المثقفين العرب من حصار ثقافي وقمع فكري وتهميش ورياء إعلامي ومصادرة للكلمة الحرة والموقف المبدئي.

قاسم مشترك آخر يجمع القصص العشر هو غياب الفرح. طوال قراءتي لهذه المجموعة، لم أشعر بلحظة فرح حقيقي واحدة. حتى عندما يلجأ الكاتب إلى السخرية، فهي سخرية تنضح مرارة وتنم عن شعور عميق بالألم. في القصة الثامنة الموسومة بـ / كان يوم/ نشعر منذ اللحظة الأولى بتلك الروح الساخرة التي تعرّي المجتمع والكثير من الظواهر اللاحضارية التي نتعثّر بها، فتعكر علينا صفو يومنا. ورغم الجهد الذي بذله القاص في الإغراق بالسخرية عن طريق قلب الحقائق، فقد غابت الفكاهة غياباً تاماً. في مجموعة الكنفاني هذه لا مكان للسعادة، الأغنيات مخنوقة والفرحة تنزف، وشبح الموت يخيّم منذ اللحظة الأولى حين تطوي الأم قنباز الأب و " تسجّيه برفق ". كل شيء من حولنا قاتم، والفرح معدوم، وإن ظهر لبرهة، فسرعان ما يتلاشى كحلم بعيد المنال أمام قبح الواقع. شبح الموت يخيّم منذ اللحظة الأولى ،

تعزز بنية المجموعة الشعور بأن غمامة كثيفة من الحزن والألم تغلّفها بأسرها. فهي محاطة بقوسين كبيرين، وأكاد أقول بفكي كمّاشة يحكمان القبض عليها: الأول يتجسّد بالقصة الأولى التي أعطت المجموعة عنوانها /أخاف أن يدركَني الصباح/ ، أما القوس الثاني الذي يغلق المجموعة بقوة فيتمثّل بالقصة الأخيرة فيها والتي تحمل عنوان /وجعي هو المكان/ ، وهي قصة مغرقة في مأساوية تكاد تكون خرافية. نلاحظ أن عنواني القصتين اللتين تقبضان بقوة على المجموعة بأسرها يحتويان على التوالي على كلمتين مفتاحيتين: "أخاف" و "وجعي". إنه الخوف والألم المتأصّلان في النفس، المتجذران في اللاوعي والمتوارثان عبر الأجيال. وهو ما يعبّر عنه بأسلوب التداعي المتبّع في القصتين، بل في أغلب قصص المجموعة."أخاف أن يدركني الصباح" للكنفاني

أنشودة التزام عزفت على وتر الحزن

د. لبـانة مشـوّح







********

تقع مجموعة «أخاف ان يدركني الصباح» لعدنان كنفاني في عشر قصص،عدد صفحاتها /122/صفحة، والمجموعة من مطبوعات اتحاد الكتاب العرب عام 2002.وصُدّرت هذه القصص بإهداء إلى رجال ونساء وأطفال فلسطين الذين سطروا بالأحمر القاني وثيقة الخلود والذين أضافوا إلى قاموس الكلام مفردة الانتفاضة .‏

وهذا الإهداء يدفع بنا لرصد حضور الشأن الفلسطيني في هذه المجموعة وقد أفضى هذا الرصد إلى نتيجة مآلها:انه حاضر في ثلاث قصص فقط هي :1-أخاف أن يدركني الصباح 2-ريختر ومقاييس أخرى3-وحيوانات أليفة .‏

وإذا كان الهاجس الفلسطيني يهيمن على ثلاث قصص،فإن هواجس أخرى وجهت الكتابة عند كنفاني وتمثلت بنقد أشكال من الخلل في المجتمع العربي الذي يعيش فيه سواء كان الخلل في مواقف المثقفين كما في قصة « الطابق السابع» أو في مواقف السلطة الظالمة والفاسدة كما في قصة«من سرق الكيس الأصفر» أو في العلاقة الزوجية كما في قصة:«أرقام وكومة من حروف» أم في فساد الأغنياء كما في قصة«ثمن الوظيفة». كما تمثلت بتكريس قيم إيجابية كما في قصة«كان يوم» الذي يصور فيه الكاتب صورة مدينة فاضلة كل ما فيها صحيح معافى وكما في قصة «وجعي هو المكان» الذي يعبر عن تعلقه بالأرض والوطن مهما تبدلت الظروف وتقلبت الأزمان.‏

وقد رأينا أن نضيء هذه المجموعات من خلال الإشارة إلى مجموعة من السمات والطوابع وتفاعلها فيها،ونعرضها على النحو التالي:‏

أولاً: استخدم عدنان كنفاني في بعض قصصه تقنية المزج بين الأزمنة فهو يكسر الزمن من خلال المراوحة في سرده ما بين حاضر تولّد وماضٍ تولّى،وخير شاهد على ذلك قصته الأولى التي منحت المجموعة عنوانها«أخاف أن يدركني الصباح» فبواسطة التذكر والاسترجاع يخبرنا الكاتب عن أسرة البطل وخاصة عن أبيه الذي غرس فيه معاني الرجولة والصلابة...وينقلنا إلى الحاضر حيث يكون بطله معتقلاً في سجون الصهاينة ولكنه صامد وأبي،يأبى أن تندّ عنه آهة تعطي للعدو شعوراً بالنصر عليه،وها هو يتذكر مقولة أبيه له:« البكا للنسوان يابا» .‏

ويردد في موقف آخر أهزوجة شعبية وظفها توظيفاً جيداً تقول:‏

يمّا مويل الهوى يمّا مويليا ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيّا‏

والتقنية ذاتها نلقاها في قصة«ريختر ومقاييس أخرى» و«الطابق السابع» و«حيوانات أليفة»‏

ثانياً: عوّل عدنان كنفاني على تقنية الحلم،حتى إن قصة بكاملها كانت ثمرة من ثمار الحلم ففي قصة«كان يوم » يرسم الكاتب بضمير المتكلم تصوراً ،لرجل لم يسمّه، لمدينة فاضلة هي التي يشتهيها ،بدءاً من أحوال الناس في الشوارع مروراً بالزوجة والمارة وأصحاب المحلات التجارية ورجال الشرطة وحركة السير والأشجار والإعلانات والهواتف والصحافة..الخ،ولأنه يكاد لا يصدق ما يرى نفاجأ كما يفاجأ هو باستيقاظه المتأخر عن دوام عمله الصباحي،بسبب صفير قطار بخاري قديم..‏

ثالثاً: كانت شخصيات عدنان كنفاني -غالباً- مختارة من أوساط الشعب المعذب الملتاع أو الفقير المحتاج. وهي شخصيات صامدة لا هشاشة فيها ولا تساوم على الحق والحقيقة ،وتتبنى مصالح الوطن كما في القصة الأولى،ولا تتنازل عن مبدأ الشرف والرفعة كما في قصة «ثمن الوظيفة» ولا عن الماضي والمكان بوصفهما جزءاً من الكيان والشاهد على ذلك في قصة «وجعي هو المكان »‏

ولكن هذه الظاهرة والحق يقال:لا تشمل القصص جميعها،فقصة الكاتب«من سرق الكيس الأصفر» صور الشاب(ياسر)وقد أسقط في يده ،فرجال الحكومة سرقوا له دمه وسرقوا رزقه أيضاً،ولم يستطع أن يفعل شيئاً ...وعليه بدا البطل هنا بطلاً سلبياً جيء به ليكشف عن مفاسد السلطة ورجالها فحسب .وكذلك قدمت قصة«أرقام وكومة حروف» امرأة تدعى(هدى) تخون زوجها صاحب اللحظة والمستقبل الذي يرحل عنها ولم تقدم لنا القصة تشويقاً معقولاً أو فنياً لهذه الخيانة فأبقتنا في حيرة من أمر هذه الشخصية التي تنكرت لحبيب لها كان يحمل بين جوانحه أنبل قضية.. وإذا كان الكاتب يروم الترميز في هذه القصة كأن تكون هدى معادلاً فنياً لقضية أو فكرة،فإن ما أحاط بهدى وما تفوهت به من كلام لا يوفر تأويلاً من هذا النوع.‏

رابعاً: اعتمد الكاتب على موقف المروي له أو على المتلقي ليملأ الفراغات والفجوات التي يضعها بين حقول قصته،فالقطع لديه حاضر ومفاجئ في أكثر من قصة، الشأن الذي يذكرنا بالطريقة السينمائية في عرض الأحداث والمشاهد، وقد ظهرت هذه التقنية خاصة في القصة الأولى من المجموعة وفي قصة «حيوانات أليفة» فبينما يكون القارئ منسجماً مع سرد يتصل بواقع البطل، الحاضر،نرى القاص يشده إلى الوراء ليعود به، دون جسور تذكر، إلى ماضي البطل فيروي من هذا الماضي موقفاً مختاراً أو لمحة أو حالة تتصل بما آل إليه بعد حين،وربما أسهم هذا الأداء الفني في خلق جمالية خاصة تتمثل في خلق الأوهام ثم في تأجيل نموها ثم في إعادة بنائها بمشاركة خيال المتلقي وتصوره النشط، وفي هذا المظهر يبدو الكاتب وكأنه يجدل ضفيرته بأكثر من حزمة شعر واحدة ولكن هذه الحزم تعود لتتكاثف لتكون ضفيرة واحدة مجدولة .‏

ولكن هذه الظاهرة لم تشمل القصص كلها ففي قصة «كان يوم» يميل الكاتب إلى السرد التقليدي الذي يسجل فيه البطل مشاهداته الخيالية لمدينة فاضلة يتخيلها وكذلك الشأن بخصوص قصة «ثمن الوظيفة» .‏

خامساً: كان للإيقاع في بعض قصص "عدنان كنفاني" حضوره ،والإيقاع القصصي يتجلى بالتكرار والتناظر،وقد حضر التكرار مثلاً في اعتقالين اثنين تعرض لهما بطل قصة «حيوانات أليفة» كان الأول في باريس والثاني في أرض الوطن.‏

وهما إيقاعان يتضافران مع حالة القمع التي يتعرض لها الفلسطيني حيثما يقيم وحيثما يرحل..ويكون الفاعل فيهما،أو المسبب لهما يهودي من تونس.كما وقع التكرار في قصة«أرقام وكومة حروف» فقد تكررت في القصة عبارات تتصل بالعدّ واحد، اثنان،خمسة ،سبعون،غير مرة. ويظهر ذلك في قصة «أخاف أن يدركني الصباح» والمعروف أن إيقاع التكرار شيء يعرف جمالية من نوع ما في الأداء القصصي والشعري على حد سواء.‏

سادساً: كانت عناوين القصص التي ندرسها تتراوح بين أمرين اثنين ،الأول يتمثل بالأخذ بمبدأ العنوان الذي يمثل مفتاحاً للنص،أو عتبة للدخول إلى عالمه كما في عناوين القصص:«من سرق الكيس الأصفر»و«ثمن الوظيفة» و«وجعي هو المكان» فالعناوين هنا متساوقة مع المضامين،وهي توحي بدلالات الأحداث والأقوال والإشارات و المواقف.‏

والثاني: يتمثل باختيار عناوين تشوش القارئ ولا تتساوق مع المضمون ولا تدل على الفحوى ولا تمثل عنصراً من عناصر الدلالة وهذا ماثل في عنوانات القصص:«أخاف أن يدركني الصباح»و«بريق السنابل» و«أوراق وكومة حروف» فبريق السنابل مثلاً لا يوحي البتة بأن الرجل ذا البزة الصفراء الذي يعمل بواباً على باب ملهى سيقتل ابنته(نوف) حين يفاجأ بولوجها باب المقهى. أما العنوان الرئيسي للمجموعة فأرى فيه غرابة واعتباطية غير سائغين، فلماذا يخاف الفلسطيني المناضل لإسقاط المشروع الصهيوني والذي ينفذ وصية أبيه القائلة«البكا للنسوان يابا» والذي لا يريد أن يحكمه النذل،لماذا يخاف من انبلاج الفجر؟؟إنني أرى الموقف خلافاً لما توحي به العبارة فذاك المناضل وغيره من معتقلي الاحتلال والغصب الصهيوني يتوقون للصباح المشرق ولا يخافون من أن يلفهم بضوئه وحرارته ودفئه.‏

سابعاً :بقيت له وقفة عند لغة الكاتب،وفي هذا الملمح نرى لغة القاص جيدة عموماً،إلا أنها عانت أحياناً من نقص في الصقل،كما شابتها بعض الهنات النحوية واللغوية التي لم تشوه وجهها ولكنها عكرت بعض محاولات تجميله وأمثل على ذلك بما جاء من أغلاط في الصفحات08.103.90.69.66.63.62.23.10)‏

ففي الصفحة(62) يقول الكاتب:لا بد أن يصل إلى غرفته اللعينة المحشورة فوق رتل من الدكاكين» والأولى أن يقول:«المحشورة بين رتل من الدكاكين» فالحشر يكون بين بينين وليس فوقهما.‏

-وفي الصفحة (23)يقول:«رأيت حدائق وقصور ريفية» والصواب«وقصوراً ريفية»‏

-وفي الصفحة (66)يقول:«رأيت الشاب المتوسطي الأسمر ذو الجبهة» والصواب (ذا الجهة).‏

ثامناً: وأخيراً فإني أرى أن كاتب هذه المجموعة لو أتيح له أن يعيد كتابتها من جديد،لتخلص من بعض الحشو الذي اعترى سرده ولاصطنع جسوراً تؤمن نقلات الخيال ما بين حالة وحالة على نحو أفضل،ولصقل بعض تعابيره وأدرج بين ثنايا كلامه ما يمكّن المتلقي من استخلاص معنى واضح في بعض القصص كما في قصة «أوراق وكومة حروف».‏

ولكن القصص في حقيقة الأمر قامت على دعامة أساسية من دعائم القصة القصيرة وهي الإيهام فقد نجح عدنان كنفاني بأن يقدم نظاماً من الرؤى من خلال وظيفة اللغة الإشارية الزائفة وليس من خلال وظيفتها النظامية وهذه ميزة من أهم ميزات النصوص القصصية عامة .



http://www.albaath.com/Thursday/culture001.htm

إضاءات على مجموعة:«أخاف أن يدركني الصباح» لعدنان كنفاني‏

بقلم:د.عادل الفريجات







********‏

تميس القصة بأسلوب شاعري ارتقت لغته عن مستوى القصّ العادي لتصل إلى شاعرية القصة إذ تنتصر فيها الحالات الشعرية والتخييلية ضمن سياقات سردية، فيتقدم التهويم على غيره من العناصر البنائية لتتفتح نوافذ النص على فضاءات قلما تُدرج في انضباطٍ أو تقنين فني مع أنها ترتبط بهواجس (خاصة/ عامة) لها علاقة بهوية القاص وانتمائه. تغدو فيها السردية القصصية ملتبسةً بهاجس الشاعرية لتجسّد حالة القاص النفسية بقوة إيقاعاتها واسترسالها وتهويماتها التي تتفجر داخل (المعتقل) ولتحلق في فضاءاتها الحرّة التي لم تستطع جدران السجن الرطبة والقيد الحديدي الذي تداخل باللحم البشري احتجازها.‏

وليست شاعرية القص مقتصرةً على حالةٍ بعينها وإنما تفرعت إلى حالاتٍ شعريةٍ حملت معها الشخصيات والأمكنة والأزمنة التي غدت بلا ملامح ولا سمات، ولا واقع لتصنع لغتها ولتدخل حالة الشمول.‏

تندرج القصة تحت ما يسمى (أدب المعتقلات) الذي جسدته القصة والرواية الفلسطينيتان في كتابات غسان كنفاني والياس خوري وسحر خليفة وعشرات غيرهم. انطلقوا من واقع النضال الوطني داخل‏

الأرض الفلسطينية، وكان المعتقل حيّزاً مكانياً احتلّ مساحةً عريضةً من مشاعرهم فأخذوا يعبّرون عن واقعٍ خبروه بأنفسهم، أو خبره أصدقاؤهم المناضلون داخل السجون الإسرائيلية.‏

تسرد القصة بلوحتها الشاعرية مأساة شاب فلسطيني داخل المعتقل، وقد أمضى مدّة طويلةً مقيّداً بالسلاسل، ومن داخل زنزانته ومن خلال قيده ينطلق الخيال فيستعيد ذكريات الأسرة والأهل والأحبة والمناضلين، وقد ألجأت الشاعرية كاتبها إلى الاتكاء على الموروث الشعبي من سيرة شهرزاد في ألف ليلة وليلة فاستدعت السيّاف (مسروراً) وربطت بين إصرار شخصيتها المحورية على النضال على الرغم مما يلاقيه من ألوان التعذيب وبين حكايات شهرزاد، وجعلت القاسم المشترك بينهما هو التمسك بالحياة ضد الموت، فشهرزاد مهدّدةٌ بالقتل إذا هي لم تواصل حكاياتها كل ليلة، وكذلك فإن هذا المناضل مهدّدٌ بالقتل-هو وأمته- إن ترك النضال لحظةً واحدة.‏

إن التنكيل والتعذيب قد يجعلان البطل مجرد جسدٍ تقع عليه السياط فينسلخ عن إنسانيته ويجعله ثوراً "كان القيد ثقيلاً يا شهرزاد... كأني ثور أبي حسن" ومن قبل كان "مثل قطة"، وعلى الرغم من ذلك يبدو صمود الشاب المعتقل. من خلال شاعرية اللغة صموداً بطولياً نادراً، فهو عندما يطعنه المحقق في صدغه ليرغمه على التراجع يصمم على الصمود، وعندما يعلن له أن رفيقيه في المقاومة تراجعاً عن موقفيهما يصمد، وعندما يطلب منه أن يكون (آدمياً) ليسمح لأمه بزيارته يصمد، وعندما يأتي الحارس ليتأكد من أنه لا يزال حياً داخل الزنزانة يغني:‏

"يما مويل الهوى ياما مويليا. ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيّا"‏

لكن انسياق القاص خلف الشاعرية عمل على التركيز على اللغة والأسلوب أكثر مما عمل التركيز على الحدث على الرغم من خطورته. مع الاعتراف بأن معالجة هذا اللون المأساوي من الموضوعات الوطنية النضالية بهذا الأسلوب الشاعري ينم عن مقدرةٍ وتمكّنٍ من الفن القصصي.‏

"هل كان الأمر يستحق كل هذا العناء؟!‏

تحدثي يا شهرزاد. فأنا الحكاية"‏

إن عبارة (أنا الحكاية) ذات دلالات واسعة على أدب المقاومة التي غدت حديث الساعة، وقد توحي بأن حكايات شهرزاد إذا ما قورنت بها تبدو هينة لينة لا طائل منها، وبذلك تبرز القيمة النضالية التي تتجلى في المقاومة، والصبر داخل الزنزانة الرطبة، وكما ابتدأت القصة بشهرزاد والحكاية الشاعرية فقد انتهت بشهرزاد التي تتحول إلى دليل بلدي ترشد المعتقل إلى داره التي دونها دبابات ورصاص، في ترميزٍ واضحٍ إلى الاحتلال الصهيوني للأرض الفلسطينية، وقد وُزّع السرد بأسلوب الشعر الحديث لتتأكد الشاعرية "بيني وبين دارنا ومرج الحمام وغابة الخروب، وقبر سعيد... جدار وشريط وحقل ألغام... على جانبه بزات مبرقعة، وبواريد ثقيلة تترصدني إن تقدمتُ خطوة وأنا طليق...‏

قالوا... هنا حدود وطنك‏

كيف أفهم هذا الهراء‏

يلوح لي قنباز أبي المقصب من نافذة دارنا الشرقية، وصوت أمي المبحوح يزف أغنية وهي تنفض حطته الحريرية، وهديل الحمام يشق صمت الأفق....‏

دليني يا شهرزاد‏

كيف أنجو من هذا الاختناق؟!



محمد قرانيا

الموقف الأدبي العدد 362 عام 2001

عودة