موقع أخبار المستقبل

لغة رفيعة وعوالم خاصة



الكتب الجيدة يكتشفها المرء صدفة أحياناً ، وفي المصادفات أيضاً بعض غفلة أو كسل عام.

رواية "أحداق الجنادب" للكاتب السوري "محمد ابراهيم الحاج صالح" الصادرة أخيراً عن دار "البلد" الدمشقية هي من قبيل هذه الروايات التي ربما لا تجد من يسندها ، إذ لا تنتمي إلى عصبة أو حلقة يروّج أفرادها لبعضهم ، ولا إلى نسق كتابي عام غالباً ما يُحتفى به تحديداً لأنه عام.

لكنها تنتمي بالتأكيد إلى عالم الكتابة الصرف، بل إلى هوى الكتابة ، إذا افترض الوصف مزاجاً كتابياً ولغوياً ومشهدياً، على أن المزاج لا يلغي التماسك والتفكّر في الكتابة، قدر ما يملي عليها عوالمها وعصبها الداخلي.

وجهة الكتابة

رواية "صالح" وهي على الأرجح جزء من سيرة ذاتية ، أو ربما ليست كذلك ، إذ لا إشارة من هذا النوع ، لكنها سواء كانت سيرة ذاتية جزئياً أو كلياً أم لم تكن كذلك، تبقى محتفظة بطابعها الروائي.

فما يسجّله الكاتب من أحداث تُروى بضمير المتكلّم ، لا تنتمي إلى عالم السيرة الذاتية المألوف والذي ينبني على قدر من الكشف أو الاعتراف والبوح "المخلص" للذاكرة والواقع ، قدر ما تنتمي إلى عالم الكتابة ، والرواية الحديثة تحديداً ، حيث ليس المهم فحسب مطابقة الشخصيات المرسومة وللأحداث لما كانت عليه في الواقع ، قدر ما تصنع هذه الشخصيات والأحداث ، إذ تتحوّل كتابة، واقعها الخاص ، الذي يتداخل فيه، بل يتساوى المتخيّل مع الحقيقي.

ولعل ذلك يحضر بشكل مثالي في "أحداق الجنادب" التي تروى الأحداث فيها على لسان طفل أو صبي يسرد مرحلة من حياته، تكاد لا تتجاوز السنة، ويقاسمه "البطولة" أترابه الأربعة وبعض الشخصيات من عالم الناضجين.

هذا الاختيار وحده يفرض وجهة الكتابة ، إذ يتأرجح السرد باستمرار بين مستويين متوازيين ومتضادّين في الوقت نفسه : الحدث كما هو في الواقع ، والحدث مرئياً ومفسّراً بعين طفل مع ما يرافق ذلك من استيهامات وتخيّلات وتضخيمات وانحرافات في زوايا الرؤية.

تكاد هذه الثنائية تشكّل عصب الرواية الأساس ، وينجح الكاتب إلى حدّ بعيد في رسم عالم الطفولة ، رسماً يتقمّص الطفولة مع أنه ينظر إليها عن بعد وعن مسافة ، ولا يدع مجالاً للاسقاطات كأن يحوّل الأولاد نماذج أو يحوّلهم شهوداً على أوضاع عامة وآراء وتحليلات تنتمي إلى عالم الكبار ، علماً أن ذلك كله مما يمكن أن يستنتجه القارئ من دون أن يفرضه الكاتب فرضاً.

"أحداق الجنادب" المتقافزة في الحقول وفي الأرض البكر هي أحداق الأطفال المطلّين على عالم ضيق في حيزه الجغرافي، لكنه شديد الاتساع بالنسبة إليهم، ممتلئ بالتفاصيل والأفكار التي تعني الأولاد وحدهم أو لا يراها سواهم.

يرسم الكاتب خلفية مكانية ريفية شبه قبلية أو بدوية توحي بمكان قصي وغير مديني من سوريا، لعلها "الرقة" مكان مولد الكاتب، لكنها أيضاً "الرقة" في الخمسينيات أو الستينيات، وأياً تكن البلدة فهي بعيدة كل البعد عن المركز المديني لسوريا، بلدة رعوية نمط عيش وسلوك وتفكير، تنتمي إلى العالم "القديم" عالم الرجال وتقاليدهم وطقوسهم، لكنها في الوقت نفسه، كما ترتسم عبر شخصيات الناضجين بلدة على مفترق تحوّل لا يفسح في المجال كثيراً لحياة التقاليد القديمة .

عالم حميم وقاس وشغوف وممتع يرسمه "محمد ابراهيم الحاج صالح" في رواية ربما تكون من أفضل ما كتب ونشر في الآونة الأخيرة

عودة