محمد خالد الخضر

دراسة في لمن تأخذون البلاد للشاعر "منير محمد خلف"



إنه الرسم بالقصيدة بعد أن يمتلئ القلب بالمشاعر و الموهبة ، و يطالعك فيها صاحب الصوت الشعري المجلجل منذ ان يبدأ كلماته الاولى بما يمتلك من عبارات قوية ورشيقة ، واسلوباً لابد من ان يكون اخاذاً يلفت الجرح الى القصيدة من تتسع اهدابه الى ما يمكن ان يذهب اليه الشاعر وهو يحمل ما تأثر به و تراكم في اعناقه .

"محمد منير خلف" يطلع من دموع الخابور التي غمرتنا بشكواها و احلامها ، وربما تعود يوماً فتغتسل "وضحة و فاطمة و عنيزة و هنادي" في حرم طهرها القدسي ، انه السؤال الذي يبدأ بالعاقبة و يلقي بالمرارة على كاهلنا الذي تراخى عساه يعتبر ... لمن تأخذون البلاد :‏

إنه السؤال المبكي الذي يبدأ شاعرنا به ألمه المتسرب الى دمنا يقول :‏

لمن تأخذون البلاد الجميلة ... يا أيها الاصدقاء ...؟‏

لمن تأخذون يدي .. وهوائي ومائي ....‏

وهذا النداء الذي قد تبقى لدي من الحلم و الانتماء ؟‏

و يدرك القارئ ان أسلوب الاستفهام أعطى القصيدة زخماً ليجعل ايقاعها يتساقط على القلب كما تتساقط حبات الندى على زهرة الياسمين صباح يوم سعيد ... ناهيك عن الصيغ التي تزيد الحضور العاطفي و الصوتي في المفردات التي استحضرها معوضاً في التفعيلة التي اختارها عن اسلوب القصيدة الخليليةالتي اعتادت ان تستأثر بالقلوب و لا تسمح لشريك ان يحل جوارها يقول "منير خلف" :‏

حملت حقائبها البلاد وسلمت فرحي الصغير لمقصلات من حداد .‏

خلفتني مفرداً ... متعلقاً بثياب من لا يعرف الذكرى ...‏

اغادرت القصائد ملح روحي ؟!‏

كما قلت : البلاد دموع اهلي حملتني صوت من اهوى و ابكاني الطريق الى البلاد .‏

ناهيك عن عمل الشاعر على خلق ايقاع صوتي مع التناسق الصوتي ليصنه القيمة الفنية بنسق اعلى او رفع الخط البياني للقصيدة باتجاه الروح البشرية ،وهنا ايضاً تكمن اشياء تظهر مدى علاقة المتلقي مع المبدع من وراء التأويلات متأثر ببيئة مليئة بالطيور و بالحب و الزهور الى جانب ذلك الايقاع المرسل من ذاته و هو يقدم لنا الحديث الذي يقدم حالة نفسية تتشابه في تكوينها بحالات كثيرة ترسل بأوردتها الى البلاد لتستقي من معانيها و جمالها ما يمكن ان يساعد على بقائها حية الى اجل مسمى يقول في قصيدته سماء مقصوصة الطيور :‏

غداً حين تأتين .. لن تقرئي في الشوارع او في الحقول‏

سوى باقة من دم اسود‏

نخرت عرض احلامه دودة الانتظار‏

وإن كان قد تسرب الى غايته إلا انه اتجه نحو التفصيل و الدخول الى مواطن الهم و القهر حيث يتوهم من لا خبرة لديه ان القصيدة ربما تخصه وحدة ، إلا انه عبر عن مشاعر يمتلكها الكثيرون مستخدماً اسلوب الحكاية في تشويقها وتأثيرها مليئة بالمؤثرات يقول :‏

هل عادت الاقمار تحمل في حقائبها دفاترنا التي كانت ترتبنا و تمنحنا الفواكه و السكينة‏

ولعل الشعر تمرد على الاسلوب البنائي المعروف مستخدماً اساليبه الاخرى بالتعويض مظهراً في ما يقدمه تكثيفاً بنيوياً ومعنوياً مبدي لقارئه شيئاً من تبسيط المفردة ليتمكن من تلقيها عبر المحبة و التواصل التي بينهما مصمم على خلق رابط قصيدته و مجتمعها و ربما يقال : إن القصيدة حديثة و لكنها تحمل في زفراتها انواع الاصالة يقول :‏

يا حسرتي ! ... ابقي غريباً ... مثلما يأتي الجواب مكنفاً بالسؤال .‏

و يدلنا كيان القصيدة النابع من صميم تجربة ثرية على ان الشاعر قادر على صياغة الشكل المناسب الذي يحقق قدرة وفيرة على التأثير دون ان يؤذي الادوات المكونة للقصيدة وان خرج قليلاً عن المألوف اللغوي بغية تحسين الحالة الفنية إلا انني امام موهبته و قدرته لا اتمنى له الدخول في مثل هذه التنويعات التي من شأنها ان تأذي جمال القصيدة حتى و إن اضاقت حداثة جديدة على شكلها البنيوي الدال على مضمونها المتأثر بمجتمع ربما يقبلها هو ، و لا يمكن ان يمنعها من الانتقال الى مجتمعات اخرى تنفر من الاستخدامات التالية :‏

« فأنا وردة من سلاسل » و هو قادر على تغيير تعبيرها المعنوي و الاهم من ذلك اضافة ال « التعريف » في قصيدة واحدة اكثر من مرة الى فعل لا يقبل هذه الحالة كما هو في قصيدة رسالة الى ضفاف القلب في قوله :‏

« أنت ال حملت حرائقي » « هو ال يريدك »‏

ربما يأتيني قائل ليقول لقد استخدمها نزار قباني و محمود درويش و سواهم فهذا القول لا يعنين لانني لا اريد لشاعر ملهم ان يجعل ما اخطاء الآخرين قبلة يصلي عليها و هم استخدموها اثناء ضعفهم حيث لا يدل مجيئها في قصيدة منير خلف على ضعف في البنية او تقصير في المفردة فهو ليس مضطراً لذلك .‏

واخرج من استطرادي لابين انت الشاعر استطاع مجارات الحالة النفسية و الشعورية للبيئة التي وجد فيها اضافة الي حركات الناس و اختلاجاتهم مع كثير من الاختلاف في البنيات الدالة ال اخرى التي استحوذها خلال ثقافته في عذوبة الديباجة المستحضرة و استحضار المناخ الشعوري ليعيشه المجتمع مع شاعره مع ادراكنا ان القصيدة لا تخرج من الزمن الذي تعيشه حيث يشكل الزمن نسيج القصيدة الاساسي بما يحمله من ألم و قرائن ربما تتكرر فيما بعد و ربما تكون عبرة لبشر يعيشون الزمن القادم يقول :‏

وفهمت مالا يفهم الحراس من وقفاتهم‏

وفهمت ان اولئك الاوغاد يغتالون امكنتي‏

وازمنتي التي لم تأتي بعد و لم تصل‏

ولابد من ادراك اهمية العلاقة الجدلية و بيئتها في مساهمتها الكبيرة كتابة و تأريخ عواطف الناس في زمن معين و هي تتأجج بنار المؤثرات المحيطة لترسم شكل الزمن الذي يعيشه الناس وتكون ديوان الحاضر في المستقبل القادم وامتداده حيث يتعامل التاريخ مع الاستثنائي والمبدع والمختلف كما عبر «أرسطو» في مقولاته الموجودة في كتابه فن الشعر وكما أسلفت وعبر عن ذلك بأوسع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وهذا أيضاً مايجعلنا نجد ثمة تشابه بين تنهدات ابن الرومي وبين مايقوله منير خلف :‏

إن الحياة جميلة‏

لكن زينب لن تعود‏

ويقول:‏

أيظل هذا الباب يحكي‏

كلما فتحت جداولها الصباحات البعيدة ؟‏

فهو اشتغل على الحدث بوصفه أساساً للقصيدة كما اشتغل السابقون لم يعبث بالعواطف التي هي صلة الوصل القوية بينه وبين بيئته والتي ستجعل منه أمين على نقل عواطف جيل لايحتمل أبداً العبث بأشيائه وأحلامه وتوصله روحه ليعبر بنقاء لايمكن أن يخربه الزمن لأنه سيتعرض للرفض كما في قوله:‏

الآن أدرك أنني طفل‏

على أطراف عمري‏

أنزف الأطيار !‏

فهل الزمن القادم يصعب عليه لأ يفسر رموز زمننا المليء بالتناقضات إذا كان ثمة شعراء مثل منير خلف يبعثون بصورر حية مليئة بالفن والحيوية على مقدرة ليست بالقليلة على التاريخ العادل ،أذكر أن ماذهبت اليه شيء من تحولات طرأت على شكل شعري كان مقدس لأن من محاولو به سابقاً «هتكوا ستره ولم يأتو أبداً » بالمقنع الوافي فهؤلاء ينطبق عليهم ماينطبق على حالة اجتماعية وصفها منير وهو يجسد واقعاً «بعيدا» عن الحلم مغمساً بالألم يقول:‏

أرى غير الذين تكاثروا مثل الجراد ..‏

تجمعوا مثل الذباب على بقايا رحلتي ...‏

وأنا أقول لمنير أولئك كانوا كذلك فلم يأتو بقصيدة ...‏

فكيف أتيت من التفعيلة وأنت تحملنا جميعاً معك؟؟!!‏.

عودة