مجمع أصدقاء اللغة العربية

الشاعر علي سعادة

الرواية بدت لي نصوصاً تقارب القصائد النثرية ، والقصص ، أكثر من مقاربتها الرواية ، إلا إذا كانت نهجاً روائياً جديداً. ونحن نعيش زمن تداخل الأجناس الأدبية ، والمغامرات والتجريب ، وهذا حق للأدباء والأدب ، غير أني لم أصل إلى نتيجة جلية عندما انتهيت من قراءتها ، وقد تكون تلك إحدى مهمات الرواية ، أي أن تفتح عليك أبواب الأسئلة ، لا أن تعطيك أجوبة لتنام وتستريح .

ما يميز الرواية قربها الرائع من الطبيعة و البيئة ، وشاعريتها التي ذكرتني ب"حيدر حيدر" « والعشب يشتعل فرحاً للحب ....أنامل الزيتون ما إن تشعر بالمطر ، وبشيء من دفء الربيع حتى يدب فيها النسغ زهراً وثمراً واخضراراً »

«كانت السهول والهضاب الشرقية تغفو تحت وشاح من ضباب الخريف الذي أشرعت له أبوابها ، فدخلها بعد أن أودع الصيف مفاتيحه تحت صخرة الزمن » .

لقد شعرت أني أتابع فيلماً سينمائياً لا نصاً روائياً ، وكانت الطبيعة تلعب دور الطبيعة فيه ، فلا تخلو صفحة من ذكر الطبيعة ، وما تضمه من بشر ، وحجر ، وشجر ، وطيور "فمن خضرة الغار والسنديان إلى حمرة جذوع ، وثمار القطلب ، إلى لون البطم الناري ، وصفرة البلوط الذي يودع مع كل هبة ريح بعضاً من أوراقه".

ويمكن للقاريء أن يتبين تماهي الكاتب مع بيئته ، وقد أدهشني بمحبته وصدقه وهو يكتب عن "طرطوس"

«طرطوس مدينة للحلم والتاريخ ، إطلالة على الله والبحر والإنسان ..... وطرطوس جميلة وعروس بحر ما لوثتها بحار القذارات ، طرطوس طهر يلامس طهر العذراء ، وعقل حدوده عقول من أبدعوا ، وسطروا منذ آلاف السنين ، أن على الأرض السلام، والسلام على طرطوس ... التي تبدل الزمان وما تبدلت ، كأنما استمدت عنادها من البحر ..».

وأتوقف عند الحكم والفلسفات التي لا يمكن تجاهلها ، ومن الحكم " كي تكون حراً يجب أن تكون مثقفاً " ، " بئس الأمة التي تحتاج إلى أبطال" " البشرية بحاجة لاقتلاع الظلم وليس الظالم " ، " ما من ثورة للفقراء إلا وانتهت ضدهم " .

وأما الفلسفات التي تميز بها رفعت فيمكن إيجازها برؤيته الخاصة للصيد، والسجن ، والنبيذ ، والقهوة ، والوفاء ، وأخيراً فلسفة البحر ذات المغزى الكبير ، فللبحر معان ، ولا يمكن أن تنسى الحنين إلى الأندلس وما يعنيه " كانت غزالة تستند على حافة عمرها ، طالما اشتهتها المرابع والمروج ، وغازلتها الشمس ، تمد لها جناحها الذهبي ، تفرده لها شعراً يتمناه الرجال خواتم لمن يحبون ، ونسائم تمر على وجوههم أنثى طالعة من وهج الشروق ، وطلعته البهية ، والغيم طالما بكى حنيناً لغابات الفرح في ليل عينيها .. حزنها حزن الجرار تشتاق إلى نبيذ الريف المشلوحة عرائشه على جدائل الأشجار تخرج يلفها بياض حداد الأندلس " .



الشاعر فراس أحمد

إن أهم ما يميز الرواية هو التجريب الذي يجعلها تنفرد من حيث طريقة الطرح لكأن الراوي اقتطع جزءاً من حياة بطله "أحمد" ليقول حكايته بدون تراتبية زمنية ، "أحمد" العائد من أسبانيا ليعيد بناء علاقاته مع محيطه ، وفي هذا السياق يقدم لنا الكثير من الشخصيات ، وأحياناً دون مبررات روائية ، الأصدقاء القدامى ، والناس العاديين ، وحتى العاهرة !

يترك الراوي لهم مساحات متفاوتة لكشف شذرات من عوالمهم ، يشير الراوي إلى زمن الرواية عبر أحداث تاريخية كالحرب على لبنان ، وتوقيع اتفاقية أوسلو ، ليدلف من هذا الباب إلى الواقع العربي القاتم ، والمؤلم ، هذا الواقع العفن المختبيء خلف مساحيق الفنانة الفارغة يدفع أحمد للنكوص إلى الطبيعة بحثاً عن الأمان ، والدفء ، والبراءة الأولى ، حيث ينطلق ابتداء ن لصفحة 103 في الرواية نشيد صوفي بديع عن الوجع ، والصداقة الطهرية ، والتماهي مع الطبيعة والبحر ، حتى تضيع الحدود بين الجسد البشري ، والبحر ، نشيد للحب ضد الصيد – القتل الصغير ، والكبير الذي يبدأ بقتل الإنسان ، ولا ينتهي بقتل واغتيال الأوطان نهباً ، واغتصاياً .

الصيد – القتل الذي تضيع حدوده بين قطع النباتات البرية الشهية ببراءة ، والقتل الكبير .

ينتهي هذا المقطع المؤثر بالمطر الذي يغسل "أحمد" ، والعالم لتنبت ولادات بآلاف حالات النتاش ، تخرج أقماراً ، وشموساً يريدها خالصة من كل ما علق بأقمار لوركا ، وشموسه . هذا النكوص الذي يدفع أحمد للاحتماء بالطبيعة وبراءتها ، يثقبه المشهد البحري الذي يختتم به الراوي حكايته .

اللافت أن النصف الأول من الرواية جاء مرتبكاً تماماً كرجل يعود من الغربة ليعيد بناء عالمه من جديد ، ليطالعنا النصف الثاني باتزان روائي واضح ، ولغة مشغولة كالنحت ، ومطرزة بالومضات الشعرية ، والانسياب الصوفي البديع الذي يتوج شخصية أديبنا الجميل .

عودة