صيارفة الرنين : وعي البيئة عند "ابراهيم الخليل"



إن أهم مايميز أدب الروائي السوري "ابراهيم الخليل" وعيه الجيد للبيئة التي يكتب عنها ، ولاأبالغ حينما أقول أن الوعي البيئي المتمثل بعنصري الزمكان " الزمان- المكان" للبيئة الرقية بشكل خاص والبيئة الفراتية بالعموم لانجدها بوضوحها التام وإمساكها بناصية الكتابة إلا عند الراحل الأديب الدكتور "عبد السلام العجيلي" و"إبراهيم الخليل" حتى لانتشعب بأعمال "الخليل" الروائية الكثيرة سنرصد وعيه للبيئة من خلال عمله الأخير "صيارفة الرنين".

ووعي البيئة عند "الخليل" يتمثل بمجموعة عناصر:‏

- أولها : إنما يجعل "ابراهيم" متمكناً بدرجة عالية من البيئة التي يكتب عنها هو فهمه العميق لهذه البيئة وتلمس مشاكلها والبحث عن حلول لها ،فهو يرصد تلك المشاكل التي تؤرق كاهل السواد الأعظم من سكان هذه البيئة مما يجعلها هموماً مشتركة وانطلاقاً من هذه الهموم المشتركة يؤسس لنقاش يشد ويجذب من خلال تأسيس لثقافة مشتركة تكمن بالتأثر والتأثير وهنا تكمن التفاعلية التشاركية البيئية ، وهذه التفاعلية هي أكثر ماأكد عليه "باختين" -من خلال تنظيره للبيئة الزمكانية في الأعمال الروائية .‏

«وعرفت حارتنا الازدهار،ذاقت طعم الشهرة ،ولذة الرفاهية ،فأصبحت مقصداً للزائرين من كل مكان ،يحملون نذورهم الى الولي الصالح ،وكلهم أمل بنيل مبتغاهم ،فدخل اللحم الى المنازل ،واتخمت البطون بالحلويات والفواكه ،ودارت الأموال في أيدي الناس ،فكثر باعة الأطعمة والسقاؤون ،وباعة الخرق البالية التي يدعي أصحابها ،أنها من بقايا ثياب المرحوم ،وهي تنفع للعاقر ،والمرضى ،ومن هجرها زوجها ،أو حبيبها ،ولم يعد الحشاش يذهب الى صيد السمك أو الى خمارة "سيمون" أو صاحبته الجديدة بوران في مضارب الغجر ،جاور الى جانب القبر ،يطرح الأتاوات على الباعة».‏

- وثانيها: الملكة الثقافية منقطعة النظير التي يمتلكها ولاأجامل ،فهو يتميز بقدرة توظيف مخزونه الثقافي لمعالجة سردية سليمة وصحيحة تعطي للرواية قيمتها العلمية والأدبية ،ف يبتعد عن الاستعراضات الثقافية التي لاطائل منها ،فلا يعرقل الانسيابية السردية ويبتعد عن مركز السرد الروائي ليطلعنا على قول« لبودلير أو سارتر أو موليير» حتى يفهمنا أنه مثقف ويقرأ مما يؤدي لتراكم سردي غريب لجسم الرواية والأهم من هذا وذاك وكأنه يعبر عن بيئة لاتمت لبيئته بصلة وتوصله الى اللاجدوى وهذا أّهم مأخذ نقدي على الروائية "نجاح ابراهيم" فهي خير من تكرس هذه الحالة في أعمالها.‏

«بونفيكيا؟!‏

العاشق الذي لايجد مهراً ،والعامل الذي لايجد طعاماً لأولاده ،والمتبطل الذي لايجد عملاً ،ازدهرت أحوال الخلق ،لكن عطباً أصاب أخلاقهم ،فلقد حملت تلك الشركة معها جرثومة مرش اسمه "الفساد" ففشت الرشوة وانتشر البرطيل فتضاءلت السلطات أمام سلطة مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل ،فهي الآمرة الناهية».‏

- ثالثها: تفهمه للمتلقي فهو لاينطلق من بروج عاجية فيكتب عن بيئة غير البيئة وزمان غير الزمان الذي يجب أ ن يكتب عنه ، فيقدم الصورة السردية التي يريد أن يعبر عنها بشكل بسيط ويضمنها أفكاراً كبيرة ،تدل على حرفية عالية في كتابة النص الروائي ،مما يجعله في متناول الإنسان المثقف والعادي والنموذجي والأكاديمي وهنا يؤدي النص الرسالة المنوطة به ،وتحصل أْعماله على قيمتها ،فلا يلجأ الى التجريح بالشعور العام لعناصر التكوين الثقافي والاجتماعي للبيئة حتى يحصل على ضجة اعلامية ونقدية .‏

- ورابعها : اللغة التي امتلكها ، ف"إبراهيم الخليل" يمتلك لغة رائعة و الروعة تأتي من جعل اللغة في خدمة النص و ليس العكس فمن خلال تمكنه اللغوي يجعل الابجدية دائماً في خدمة الفكرة التي يريد ايصالها فتكون لها الاكسجين الذي يجعلها تتمتع بالحياة فلا يذهب مسالك هؤلاء الذين يتكلفون لغة على حساب الفكرة و يجعلون النص اقرب الى الشعرية منه الى الروائية وهنا تسعفني ذاكرتي بمقولة روائي اسباني يقول فيها فيما معناه ( اذا كنت تريد ان تكتب نصاً روائياً حتى يمثل فيلماً فلماذا تكتب رواية الاجدى ان تكتب سناريو ) ف"الخليل" يعرف ماذا يريد و أي جنس سيكتب .‏

نيلوفرة هذه المرأة تركت جسدها العاري للماء ، بينما مدت اصابعها المحناة ، تلم زقزقة العصافير من ازرق القبة السماوية ، فأسرع رمان صدرها الطافح الى مقصلة يديك فطاش رذاذ الجمر .‏

- بأباريق من الذهب ، يشرب هذا الفم الناضج بالدم الذبيح من التوت الشامي .‏

- امرأة ذهبية ،تقود الى خطايا ذهبية ، ولغة ذهبية ، بأصابع مرتبكة تحل عقدة لساني ، لأثرثر برنين الذهب .‏

- خامسها : حذوه حذو روائيي التسعينات فتتميز روايته بالقصر فهي لا تتجاوز مائتي صفحة ، و بذلك يبتعد عن الطول الذي كان رائجاً في رواية الستينات " نجيب محفوظ - احسان عبد القدوس - يوسف السباعي " .‏

"ابراهيم الخليل" كاتب روائي متمكن وقاص فذ يعتبر هو و"زكريا تامر" من اهم كتاب القصة القصيرة في سورية و بفضله هو و "عبد السلام العجيلي" اكتسبت الرقة عن جدارة لقب « عاصمة القصة القصيرة » أمد الله لنا بعمرك حتى تستمر بالابداع .‏



أحمد خمري الصلال‏

عودة