سهيل شدود يروي "أصايص" حبق اللغة على شبابيك الكلام

صحيفة تشرين

ثقافة وفنون

علي الراعي



«.. سينبشُ وينكشُ ويفلفش.. سيفلفش في هذه الأحاجي، هذه الحزازير، ويجند من أجلها جيوش علم النفس الحديث «جداً» في المدن المتقدمة «جداً» ولن تنفع معها حتى المعرفة التي تراكمت في جمجمته على «كبر» تبدو بائخة أمام فكفكة الألغاز، وتسبب له الندم أحياناً..».

سواء اتفقنا أو اختلفنا حول أهمية «الثمانية عشر» نصاً، التي ضمها كتاب "طَبزْ وتشعيل مقام «كنّا»" مرة باللغة العربية وأخرى بالإنكليزية، فإننا على الأغلب سنتفق على أننا أمام كتابة مختلفة.. فسهيل شدود في هذا الكتاب سيطبز في منحنيات الذاكرة وتلافيفها ـ والطبز هنا بمعنى الإشعال ـ في «مكانين» حاديّ الاختلاف، بين ذاكرة طفلية في "حواكير" ريف "الدريكيش"، وبين واقع حاضر في "نيويورك" حيث يعمل طبيباً ومدرساً للغة العربية في جامعة كولومبيا.. ‏

في نصوص تحتار في تجنيسها، إذ تأخذ من كل جنس إبداعي ما تشاء رواية، وقصة، وشعراً، وتشكيلاً، في مقاطع سردية أقرب إلى مشاهد تلتقطها كاميرا سهيل شدود وإن سردها بكلمات.. ولعل عناوين النصوص تعطي مدلولاتها من حيث مستويات الكتابة واللغة في هذه النصوص: نص كيلو عوّامات ووقية قَطْر، قناعات "لوريّا"، القلق المخلوع، أميرة الشعر الذهبي، الاستاذ يونس، يمين يسار.. ومن هنا نبرر للقاص علي صقر في وصفه للنصوص، بأنها من الطراز الأدونيسي بامتياز لكنها «مديّكة».. نسبة لعلي الديك، وذلك خلال الندوة التي عقدها صقر في طرطوس للحديث نقدياً عن الكتاب..



‏تدييك النصوص ‏

عن هذا "التدييك" للنص يجيب شدود في حوار مع "تشرين" : اختيار اللغة كان قصدياً، فأنا كتبت بلغة حية معيشة، ومسألة العامية في النصوص أراها نسبية «فأبغي» مثلاً فعل باللهجة العامية عند الكثيرين، وفصيح عند كثيرين أيضاً، وهكذا كلمة "بس" مثلاً، وفعل "كلّم"، إلخ، ولي مرجعية هنا في كتاب القرآن، إسقاط الهمزة من كلمة «سماء».. أو بعض الأحرف، وما تظنه ميتاً قد يكون حياً، هل رأيت مناماً باللغة الفصحى ذات مرة..؟!! ‏



‏ نصف كيلو حنين ‏

نصوص هي نصف كيلو حنين للوطن ووقية حياة في الاغتراب، لغة حادة كمقصلة الغربة وبمدلولات لا حدود لها، لغة تمشي على الحد بين لغة "العوامات" ولغة "لوريا" إحدى شخصيات هذه النصوص، ترى هل كانت الغربة وراء "طبز" لغة "العوامات" وإشعالها في النصوص؟. ‏



يجيب شدود: لا أعتقد أن الغربة هي التي حرضت على هذه الكتابة، ذلك أنني أحببت أن أعطي كثافة سماعية، وبصرية وحسية للمفردة العربية، التي تضيف عمقاً للشخصية في السرد، أعترف أنني كنت محرضاً لأعطي اللغة العربية فماً ولساناً ويدين، وكل الأعضاء والحواس الأخرى، أرى أنها تفتقد الكثير منها، إذ كيف نقرأ المتنبي وغيره ولا نفهم مفرداتهم، ونقبلها.. ومن هنا فالسجال بين العامية والفصحى هو سجال سياسي بالمعنى الواسع للكلمة. ‏



‏ في شارع جبران ‏

إذاً هي كتابة شاعرية رغم يوميتها، لم يكتب كما أسلافه المهجريون رغم أنه يعيش في الشارع ذاته الذي كان يعيش فيه جبران خليل جبران، أي بلغة الحنين، بل أشعل لغة "الحواكير" لغة رعوية وبرية، كانت بين يديه مطواعة أعطت لـ "ما نيكان" اللغة الفصحى ثوبها ذا الأزهار، فأوحت أكثر مما أفصحت، دون خوف من الوقوع في لبس ما.. ‏



أسأل شدود: لكن ثمة خفوت بين نص وآخر، لماذا الخفوت في بعض النصوص؟. ‏

من جهتي أنا أكتب نصاً واحداً.. ومن هنا استمرار بعض الشخصيات في النصوص التالية، وإن كان ثمة خفوت، فهو في الزمن السردي، وفي لغة الشخصية، وليس في النص، والأمر في النهاية يعود للذائقة الأدبية لكل متلق، إذاً الخفوت في فعل الشخصية أحياناً لكنه جزء من التوتر العام.. والتفاوت يأتي انعكاساً للحياة بحد ذاتها؛ فاللغة الواردة في النصوص أزعم أنها لغة شخوص، أحياناً لا يكون الراوي أو السارد جزءاً منها. ‏

بهذه المستويات المتعددة للغة كيف يمكن ترجمتها إلى الإنكليزية، دون أن تفقد رائحة الحبق فيها ومشاهد شجر الحاكورة؟ ‏

تم ذلك بمساعدة الإنكليزي "مارلن ديك" وهو عارف ومتعمق جداً باللهجات السورية.

أما التحرير للترجمة الإنكليزية فكانت لي ولمحمد عدره، وأؤكد أن "المحلية" في النص لم تكن مقصودة بل نقلت عن شخصيات محددة لغتها في مكان محدد هو الآخر وهي لهجات لكل مناطق الوطن. ‏

والنص يبدأ الآن إشعال الذاكرة اليوم.. ‏



زمان سردي ‏

إذاً: ما حكاية "كنّا" في النصوص التي أشعلتها؟ ‏

"كنا" التي ترد في النصوص لا تعني الماضي، فهي وإن كانت قادمة من الماضي، لكنها مستمرة اليوم بكل استطالاتها، بأقنعة أخرى لوجوه ثابتة.. ‏

ومن حيث تغييب جنس محدد كقالب للنصوص؟ ‏

النصوص أقصدها تماماً هكذا، أحببت أن أطرح زماناً سردياً أكثر من طرح جنس أوصنف سردي، ما يهمني هلام المحتوى أكثر من التصنيف أو التجنيس، وأنا كما ذكرت كتبت نصاً سردياً واحداً، رغم التنويعات الثمانية عشر، فثمة خيوط كثيرة تجمع بينها لتبدو نصاً واحداً، وهذه دعوة للسجال مع القارئ، وعندما أكتب أكون مشغولاً بالبناء، لاسيما بناء لغة الشخصيات.. فالشاعر له الحرية أن يحكي شعراً، لكن المرأة المهزومة مثلاً لا تحكي إلا انكساراً، فاللغة أريدها أن تكون قريبة من سياقها، على الأقل إذا أردنا أن نكتب بصدق. ‏



‏ مقام الأنا ‏

إذاً: فشدود، وإن اشتغل على «مقام كنّا»، إلا أنه اشتغل أكثر على مقام الأنا المعرفية من الطفولة وفي كل "المسافة" البعيدة عنها، فالأنا هنا جزء من كنّا البعيدة القريبة جداً، والباص الأخضر الطويل، والحزين الذي كان يخشخش ويسعل في شوارع دمشق منذ أكثر من عقد هو ذاته اليوم الباص المريض في الشوارع ذاتها، وإن بدل لونه، أو لونته الإعلانات، وكأن كل شيء ثابت عصي على التغيير. ‏

بهذه اللغة التي تبدو البطل الأول في نصوص سهيل شدود، يقدمها بفيوضاتها الجديدة، بالمفردات التي تعبق بالحياة مستفيضة بتناول التفاصيل والصور الساخرة والجزئية دائماً.. "طبز وتشعيل مقام «كنّا»" هي مغامرة كتابية، لكنها جاءت محمودة العواقب ومضمونة النتائج. ‏



عودة