جريدة البعث

سلوى عباس



تؤكد رواية "عشقاً ينزف منفاه" للكاتبة "هفاف ميهوب" أن الحب يمثل حاملاً انسانياً للحياة بكل وجوهها ، وعندما يكون الحب وجهاً آخر للوطن ، نرى أنفسنا نحمل المدن في أعماقنا انتماء كما نحمل أسماءنا وهويتنا.. ذاكرتنا التي نعيشها نحمل معها جزءاً من ذاكرة المدن نسكنها وتسكننا.

فهل يبقى الحب دليلنا في ليل غربتنا ، يخفف وطأة الحزن ويعيد لأرواحنا لهفة الشوق والحنين ، فكم هو صعب أن يلاقينا الحب ببرودة وجفاء دون إحساسه الملتهب بالعاطفة والشوق.

أن يكون الحب هو المعادل الموضوعي للوطن ، أو هو الوطن الحامل لأوجاعنا وآمالنا وخيباتنا ، فإنه بذلك يتجذر في وجداننا ليستيقظ عند أول غيمة تصادفه وهذا ما تؤكد عليه الكاتبة عبر أحداث روايتها التي تسردها لنا على لسان بطل الرواية "صلاح" ذلك الشاب العراقي الذي تضطره ظروف الحرب إلى النزوح عن "بغداد" لتكون "دمشق" وطنه الآخر الذي يرسم له تاريخاً جديداً عبر قصة حب يعيشها مع "ميرا" الفتاة السورية الحالمة التي تنجرف مع عواطفها ومشاعرها ، وتبقى وفية لحبها الذي وقف الأهل والعادات والتقاليد ضده دون أن تقوى على مجابهة هذا الرفض وتجاوز العجز عن التقدم ولو بخطوة واحدة تجاه هذا الحب الذي يمثل لها الحلم الأسمى في الحياة ، فقد يضعنا القدر أمام خيارات لاذنب لنا بوجودها .

فنحن خلقنا ووجدنا أنفسنا بأسماء وأديان لم نخترها وأوطان كتبت تاريخنا دون أن يؤخذ رأينا بانتمائنا إليها ، وهذا ما دفع "صلاح" إلى رحيل ومنفى آخر يفرض عليه فيغادر "دمشق" التي احتضنت أوجاعه يوماً ليختار مجبراً مدينة أخرى ويعمل صحفياً في إحدى القنوات الفضائية ، وبعد خمسة عشر عاما من الغياب يعود إلى "دمشق" تدفعه اللهفة لحبيبته التي لم يستطع البعد أن يطفىء جذوة الحب التي أشعلتها في روحه ، تقابله هذه الحبيبة ببرود مصطنع لتنتقم من رحيله الذي لم توافقه عليه ، فهل من الممكن أن يحوّلنا الحب إلى جلادين ننتقم من أنفسنا، وهل يمكننا أن نكره من أحببناه يوماً ، ونعيش بعيداً عن لحظات تخلدت في أرواحنا ونمت في مسامنا ، وتحت جلودنا.

فهذه اللحظات هي شفاعتنا في إعادة الدفء لأرواحنا ، وهذا ما يعيشه "صلاح" عبر صوت "سعدون الجابر" الذي رسم أحلام العراقيين كلهم في غربتهم ، يدغدغ آلامهم وماضيهم المثقل بالقتل والتدمير"ص15"

أمام البرودة والجفاء الذي تستقبله به "ميرا" يحاول أن يشرح لها أحواله في بلاد الغربة التي لم تستطع أن تمسح عن روحه غبار الوجع المدمى ، يذكرها برأيها بالحب الذي كانت تراه يمثل تاريخهما وتراثهما ، وساحات وطن مرصوفة بدم شرايينهما.. وطن محفوظ في متاحف ذاكرتهما التواقة إلى أنامل سحرية ترسم أصالتها بنحت الوجع فنوناً من العطاء الصادق.

ولكن هل يمكن للزمن أن يذيب صقيع غربة غلفت قلوب أحبة كانوا يوماً أقرب من الروح لبعضهما ، وهل يمكن لنار اللهفة أن تعود وتشعل أرواحهم في زمن لا يقيم وزناً للحب والمشاعر.. زمن قائم على القتل والاستلاب وإلغاء الأوطان وتدمير الحضارات.. يقول لها: " أعرف أنه ليس زمن الرومانسية، بل زمن الكذب والدجل والمصالح، لكنني لا أستطيع أن أنتزع جمرة الحب من قلبي مع أنها تحرقه، إنه الشيء الوحيد الذي بقي يضيء حياتي ويبعث الأمل في جثة اليأس المحنطة ضمن نبضاتي" ص20

والحب والحرب هما محور الرواية ، حيث انكسار الوطن انعكاس لانكسار الروح وانهيارها ، ف"صلاح" و"ميرا" يعيشان حالة الحب خلال الحرب الأمريكية على العراق ، هذا الحب الذي يرتسم مصيره بسقوط "بغداد" بفراق يمتثل له المحبان ليؤكدا عجزهما مرة أخرى عن فعل أي شيء لانقاذ هذا الحب ، وهنا توظف الكاتبة المكان توظيفاً كبيراً تنسج من خلاله أحداث روايتها ، وتظهر الرابط الروحي ما بين المكان والوطن ، فتروي على لسان بطلها أهمية المكان ورسوخه في أعماق الروح ، إذ يشكل الذاكرة الحية للانسان ، فتصور عشقه ل"دمشق" وارتباطه بها والعلاقة التي تربط "دمشق" و"بغداد" جغرافياً ، فأغلب المدن تتشابه في ملامحها وأمكنتها يقول: " شدتني شوارع دمشق بترحيبها، هاهي تستقبلني بترحيب شديد، بجواب طردني دهراً من ملجأ يتمه البغدادي.. دمشق الغاصة والصاخبة بهتافات جعلتني أستعيد وعيي الذي أفقدتني إياه سنوات اللجوء المتصحرة بشكل لايخلو من أشواك أدمت فجيعتي طويلا" ص74

عشقاً ينزف منفاه" رواية تمثل الواقع بكل وجوهه ، تحمل الكثير من الشجن والأسى الموشى بأطياف الحب الذي يمثل الوجه الآخر للوطن ، بل هو الوطن ذاته ، نعيش فيه ويعيش فينا ، والخيبات لاتلغي الحب ، بل هو الذي يحفزنا على تحملها والبدء من جديد، فعندما نهرب من القتل إلى الحب نتجاوز هذه الخيبات بمساحة الأمل والتفاؤل التي تنقلنا إلى عالم من السعادة ننسجه بجميل أمانينا.

وقد كان للأسلوب الرشيق المشغول بلغة شفافة وقوية ومتميزة ومعبرة دوره الكبير في رسم نهاية هذه الرواية، فالحب المستحيل دائماً ينزف منفاه الذي يحكم به قسراً وتنتهي الرواية ويبقى حب العاشقان معلقاً على مقصلة الزمن وتبقى الأوطان تحلق بأجنحة الانكسار.

عودة