الوحدة

الأربعاء14/9/2011

نعمان إبراهيم حميشة



للشعر مهمات وأهداف وغايات في عالم أهوج هو أحوج للمعنى منه الى العبث طالما العالم يختنق بتفاوت مرعب يستحيل ردمه أو رتقه , فالشعر أغنية البراعم ولفظ للقباحة والخراب في علاقة تقوم على نفخ الساكن وتفجير الحياة فيه , في محاولة للإبحار في خفايا الذات الإنسانية التي ما أن يغوص الانسان فيها حتى يشعر بأريج الوعي ينساب في كيانه ويمتزج كما يمتزج الجمال والعطر واللون بالأزهار والورود التي تنجذب إليها المشاعر الإنسانية . شاعر دَفّاق الشعر , تخضّر الكلمات على شفتيه , رقيق المشاعر , مرهف الشعور يحمل مخزوناً ثقافياً من طفولته البكر ومن المروج الخضراء وبراءة حاراتها, وأكف صباحاتها الندية وأريج أزاهيرها , ما أنعش ذاكرته لإبداع هذه القصائد التي تزور الأذن خلسة وتستوطن فيها .

"قبل غزالة النوم ": مجموعة من الشعر الأنيق لا تعتمد منهجاً شعرياً محدداً ولا قواعد تحكمها, ينسج الشاعر فيها حالة متناغمة من الحوار الوجداني , ويأخذنا الى الماورائيات في شعره يتأمل كثيراً هذا الكون الفسيح , يكثف السنوات الطوال بكلمات خالدة يطلقها لا يقتلها الزمن ولا تبددها الأيام , يبدو فيها صاحب خيال مشاكس منذ طفولته, يرى نفسه كبيراً بين الصغار , فحتى في حديقة الأطفال سخروا من تصرفاته وأفكاره التي تسبق عمره الحقيقي بسنوات , يطلق خياله الغريب وتأملاته الفلسفية ورؤاه المشوبة بخيال علمي إلى حدود لا متناهية منادياً بفك القيود التي تعوق دروب العقل : مُذْ كنتُ صغيراً... أنمو في حصص الرسم والموسيقا ... ودائماً.. كان العالمُ أصغر من أصابعي .. وأضيقُ من حُنجرتي . ص 15

لغة شعرية جديدة واسقاطات جديدة تدل على عمق نظرة الشاعر للحياة والأشياء, فعندما نجري وراء الأشباح التي تلامس عقولنا ولا نلامسها , وتنعق في مخيلاتنا مستحاثات اليأس كتردد النبضات في القلب المخنوق , ويضيع الأصل وتتبدل الملامح ويتحول الجسد الى قطعة من المعجون القابل للتشكل وفق معايير العصر والموضة , فما أحوجنا الى الهدوء والسكينة كي نتحرر من هيمنة هذا الزمن المسكون بالزعيق والضوضاء والتوتر والجفاء والمنغصات اليومية التي لا مفر منها ولا نجاة, وحجب للعقل وتغليب للعاطفة وتصبح كالدمى المتحركة في عقل لا إشراق فيه وفي روح لا جناح لها ... تأمل معي كم من العبر والدلالات , في هذه الكلمات : ما ظننت أبداً... أن تتغير قناعاتنا ..أنا و أوليس .. كأن نمشي بأقدامنا .. إلى زمن ... يُبدل فينا ما نحبُّ .. زمن جديد وقاتل .. كالمبيد الحشريِّ . ص 40

في الديوان دعوة لفك حجب العقل التي تقيد الانسان , ولمعالجة واعية لما يعتري النفس البشرية من منغصات وتناقضات , قصائد لا تنقاد للخيال المحض بل تنحاز أكثر صوب لغة العقل . إن سخرية الحياة وعبثها دفعه ليسخر على هواه من هذا العالم الزاخر بالتناقض والاحتدام والحركة , فلا يجب أن يتوقف البحث عن حقيقة الانسان و الكرامة والمحبة والسلام . هناك الكثير من الأبعاد التأملية التي تشي برؤية عميقة واسعة امتلكها الشاعر ونسجها على هيئة قصيدة تتوغل الى مسافات بعيدة متسلحة بالرمز وتجلياته وأسئلته التي تفيض جرأة وتجنح نحو محاولات لرفع الستارة عن الحجب وكشف ما هو مضمر وغير معلن . إن رؤى الشاعر . المستقبلَ إن هي إلا تصورات وتنبؤات يبصرها من خلال النافذة التي وهبه الله إياها , في ديوان » قبل غزالة النوم« يقدم الشاعر قصائد دسمة بمحتوى فكري ثقيل وعميق ومتأمل , يحملنا معه إلى فضاء شعري لا يعبأ كثيراً بالغلاف الجوي ويجتاز ثقب الأوزون الى المجرات التي لا يحوطها حد ولا يسدها سد .‏

عودة