حسني هلال



إلينا، وإليه وزملائه، يبعث إهداءه.

إلينا أولاً، رغم أنه وزملاءه، أولى منا بالإهداء، جسداً وروحاً مكافحة.

إلى ضيق مكاننا، وضيق مكانه ورفاقه.

ينسب ولادة الفضاءات، مع أنه ورفاقه، أحق منا بالفضاء، سلفاً ونفساً منافحة.

«إليكم، إلينا، ليس إلا من ضيق مكانكم، ومكاننا تنبثق الفضاءات الملونة!».

بتلك الكلمات الصغيرة القليلة، حجماً وعدداً، الكبيرة، الكريمة، إخلاصاً ومعنىً، يهدي "فائق حويجة" القرّاء، مجموعته الشعرية "ستأتين" مذيّلاً إهداءه بـ: "أحبكم".

تتألف المجموعة من 26 آهة، تتحرر من أتون تجربة صاحبها، وتنفلت من ريقة تطلُّبه، لتبرد على فضاء 110 صفحات، بانتظار انتقالها لمشاركة جديدة في تجربة أخرى.

إذا افترضنا أن لكل مخلوق دوره في الوجود، انطلاقاً من مكانه، على هذي البسيطة المتبسِّطة.

الكروية / المكوّرة، المطحية/ المطوحة، المكسورة/ المكسّرة.

فقد امتشق الشاعر دوره على أرضنا الفسيحة/ الضيقة، آخذاً بنا من أجنحة خيالنا، إلى فضاءات واقعه، وذلك من مكانه في:

"غرفة صغيرة صالحة للإيجار،

في زمن الاستهلاك،

أو قبر كبير صالح للدفن،

في زمن المشاعة

مكعب طوله متران،

عازل على الأرض،

وعاء للبول،

وحرامان" ص 5.

فيما يخص الزمكنة بمفهومها المتداول، يمكننا إسناد تاريخ قصائد المجموعة، إلى مابين عامي 1982 ـ 1990. وإرجاع مسقط رأسها، إلى كلٍ من "تدمر والمزة وصيدنايا".

أما ثقالة الزمان بميقاتية المسجون، وأريحية المكان بهندسة الزنزانة، فذاك ضرب من الحساب، لا يفقهه إلا المجربون.

ولمن يعيشون خارج الأسوار والقضبان أن يتخيلوا إذا شاؤوا:

"لا تستغربوا يا من تعيشون

خارج الأسوار

أنّا نأخذ الدفء منكم

حين يهاجمنا البرد!

ففي ثلاجات الموتى الأحياء،

بقرار عرفي،

يُمنع إدخال الدفء إلينا" ص 45.

لا بد للمعتقل من أن يفكر بالآخرين أيضاً، مَنْ هم خارج سجنه الصغير، ومَن يشاطرونه عذابات قبره، الذي يدعونه سجناً.

وها هو ذا "فائقنا" لا أدري أعرّفه: الشاعر السجين أم السجين الشاعر ينسى أو يتناسى همه، إزاء ألم زميله "أبو جاسم".

الذي ما عرف نفسه أباً إلا وهو خلف القضبان!

فراح يرسم ملامح ابنته، التي أودعها نطفة بانتظار يوم يراها فيه.

يوم جاء بعد تسع سجان، فانهد إثر اللقاء باكياً شاكياً مردّداً: فقط لو سمحوا لي أن ألمس شعرها!

كذلك لم ينسَ الفائق بكاء زميله أبي خليل حين بثته زوجته، التي طالما أحبها وأمّل النفس بلقياها، نبأ استغنائها عن خدماته كزوج، في دفتر العائلة فقط.

بيد أن بكاءه ما كان على الزوجة الخالعة، إنما على ابنه الصغير، الذي رآه بعين الأب والقلب باكياً.

ليس المقصود هنا، سرد سائر المواضيع والشؤون التي طاولتها أشعار "فائق".

على تشعبها وأهميتها، لكن ليس من المقبول منّا ولا من المسوَّغ لنا بالوقت ذاته، أن نضاعف القمع على الشاعر.

فنغفل صوت قلبه تجاه الحبيبة، ونغمطه لقاءه وحواره معها. ذاك، الذي عزّ تحصيله على شواظ الواقع، فاجترحه الشاعر، على نياط الحلم:

أشتاق إليكِ كثيراً!

وأنا أكثر!

تركت الأصحاب أتيتُ إليكِ

ستذهب بعد قليل؟!

قالت ضارعةَ وحزينة

سأحاول أن أبقى،

ألاّ أستيقظ،

شدّيني إليك!

تماسكنا، وتلاصقنا

ثم توحدنا بالشوقِ،

وبالحزنِ،

الممتد من غور العينين،

حتى نخاع القلب!

حاولنا طرد اليقظة،

خدعناها مرات ص 86 ـ 87.

"ستأتين" هي القصيدة التي اختارها الشاعر، من بين قصائد مجموعته، واستعار عنوانها ليكرّسه عنواناً للمجموعة كلها، ما يدل على ما للمقصودة به، من فائق الأهمية عند القاصد.

وما تستوي عليه من فرادة نادرة، وجاذبية باهرة لديه. لا سيما بعد أن نراها بعين شوقه، ونقرأها بعين شعره:

"يا امرأةً يعشقها الكل:

إليكِ أناشيدي!

يا أثمن شيء في هذي الدنيا!

من أجلك نحيا

في هذا التابوت الأسمنتي

بعيداً عنك!

من أجلك،

ولأنَّا نعشقك،

ونعلم أن البعد بسبب منكِ،

ورغماً عنكِ،

فإنا ننتفض على اليأس،

ومن هذا القبر نصرّح:

حبيبتنا أنتِ،

ونحن لك،

فلتأتي!

عودة