سونيا سليمان

موقع شرفات



يقدم "أحمد تيناوي" في مجموعته الثانية " أندلوثيا"، المرأة الحب الأول, الحلم الأول ,المدينة الأولى , اليقين عندما يتعثر في الشك, النهايات الموجعة حينما يتعب القلب, ويتعب الشاعر من الركض وراء الأحلام التي لا تتحقق ، ولم يعد ينتظرها غير آبه ,وكأنه يوّد القول: الكتابة فخ تنصبه الهزيمة ويقع دائما الشاعر في شركها .

يكتب "تيناوي"، بصوت عال، خساراته دون خجل، ويعلن هزيمته بجرأة واضحة وكأنه لم يبق شيء, فهزيمة الروح تعني هزيمة الأشياء كلها. القوة عنده هو صوته الذي بقي يؤرخ به قصيدة الخسارة :

أعطيني قليلا من الوقت

فربما لم يغلق بائع الورد

هو يعدني منذ خمسة وعشرين عاماً

أن تكون الوردة آخر هزائمي

يدخل الشاعر في تفاصيل الحياة اليومية، فكل شيء له حكاية مع المرأة التي يحب, تضاريس المدن وحارات الشام القديمة و زواريب باب توما ,والأدراج المؤدية إلى كتف قاسيون وحي المهاجرين. تصبح المدينة المرأة الحلم، الذي يحلم بتشكيل تفاصيله كل يوم، وتغدو النساء مدناً ينتزع منها مواعيداً مؤجلة، ينتظرها لعلها تأتي مباغتة مساءاته الخاوية .

علاقة الشاعر بمدينة "دمشق" تأخذه للمقاربة بين مدينتين تجاوزتا فن العشق ولهفة الوصف، فتتشابه لديه النساء في دمشق وغر ناطة كما يتشابه التاريخ. شَعرٌ طويل لامرأة واحدة يصل بين مدينتين من العشق، وقلب واحد, ينسدل على كتفي الكتابة ويهطل فقدا على أوراقه المعتقة بنبيذ أسباني:

بداية خلافنا من التاريخ

وبداية صداقتنا من التاريخ

أشعلت المساء بفوانيس العرب المنطفئة

وقلت أن دمشق لا تكشف عن رأسها للغرباء

ومثلما رغبت تماما كان الشارع الموصل إلى غر ناطة ....

تطغى الشاعرية في الشكل والمضمون على قصائد تيناوي، نصوصه غير مؤطرة في شكلها، مفتوحة على مرأى القارئ، إذ يستطيع تلمسها لانه يعيشها بشكل يومي. لم يأت الشاعر بموضوعاته من الخيال، إنما ثمة واقع ينزف حبراً، استطاع التقاط اكثر الصور المؤلمة التي تخصه منه، محاولا رتقها بالكلمات .عبثاً، لايمكن أن يحصي واقعه بأكمله، لكنه لم يتخل عن نزعته الإنسانية في قصائد عدة تخصنا جميعاً، واضعاً يده على جراحنا المفتوحة وعلى ما لم نستطع إخفاءه، فاضحاً متهتكاً وعارياً من كل شيء، لم يدعي القوة آو الصرامة ,غير مؤمن بما ندعيه من أمل أو تفاؤل كاشفاً هواجسه لمن يقرأها، وأحاسيسه أيضاً:

أليست تلك لعبة الشرق

لعبة الخوف من تاريخ النزوح إلى الحقيقة

"أحمد تيناوي" لم يستعر بلاغة المتنبي و ألفاظ الجاحظ . أراد أن يقدم قصيدته للقارئ دون أن يدخل المدارس التصنيفية للشعر , اعتمد مفردات عادية هي مفردات الحياة اليومية التي يلوذ إليها شاعر يكتب نفسه، وكأنه يبوح لها , لذا خرجت مجموعته هذه ، شعراً يصل بكل وضوح إلى الوجدان ويلامس أحاسيسنا ،هكذا ببساطة . عبرلغة غير مشروطة، سهلة واضحة. بدون تكليف خط ما يشعر به بصدق عال، وقال ما يريد قوله بلا مواربة أو خوف , بشفافية وانسياب تستطيع أن تقرأ له نصه الشعري، وتجلس معه حيثما كان يجلس ،وترتب معه تفاصيله المبعثرة وفوضاه التي صنع منها قالباً شعرياً يبدو منظماً :

أوراق مبعثرة تلك هي حياتي

حسنا

ربما كانت تلك العبارة تحمل شكلا قديما للتعبير

عن الفوضى ...

يدعو الشاعر، القارئ إلى مشاركته خسارته، فبالأمس فقد العرب

الأندلس، وهو الآن يشكو فقد معشوقته الأندلسية . ما سر الفقدان الدائم للفرد أو الجماعة عنده؟ هل فقدان المحبوبة جعله يتحسر على تاريخ بأكمله؟ .حينما تصبح المرأة بحجم وطن يلوذ في حناياها، ويرسم جغرافيتها بحدود حبه لها وتطلعه إليها، كامتداد لجذوره التي ضربت في عمق التاريخ ,وكشرقي وقع في حب امرأة اسبانيه وهاهي اليوم تنوء وترحل بعيدا لم تترك سوى الأطلال، يبكي عليها منتحبا مجده الذي كان بالأمس .

ببساطة

لو أنك معي الآن

لو أنك بقيت معي

فلن أكون متأخراً

عن أي شيء

تصبح النساء في شعره عواصم لها لوعة في قلمه وقلبه معاً، تغادره أندلوثيا, وتبقى دمشق حبيبته التي تأتي بلا موعد، وهو سيظل ينتظرها في كتف قاسيون، حيث نوافذ الروح مفتوحة على هواها الذي لا يغادره أينما ذهب القلب .

" أندلوثيا" مجموعة شعرية ، صدرت عن "دار كنعان" للطباعة والنشر بدمشق .

عودة