ثقافة

الثلاثاء 3/5/2005م

عبير الحمو



أصدر الشاعر "نزيه أبو عفش" ديوانه اهل التابوت بعد ديوانه "الله يبكي"

وهو مجموعة نصوص يأخذ بعضها برقاب بعض او هو نص متعاقبة اجزاؤه متتابعة مفاصله كلما توغلت فيه ازداد حبك للكلام ففي ديوان اهل التابوت تنطلق الذات القلقة منذ الوهلة الاولى من العنوان فنجد الشاعر يلملم اشلاءه في عصر الهزيمة والانحطاط ويبدو ان اختيار الشاعر الرمزي الذي يسيطر على جل كتاباته هو اختيار املته ضرورة حضارية قبل ان يكون ضرورة فنية هو اختيار فيه احتجاج ضمني على الذات وغرابة الواقع واضطراب الصلة بينهما ,حنين العمق المغيب في الذات الحاضرة التي غدت مسخا تلوذ بالواقع فيجلدها وتهرع الى الماضي فينأى عنها‏

ويبدو ان نص "ابو عفش" اصيل في اختياره رغم ان الاصالة التي يركبها هي اصالة الضياع تعبير صادق عن اغتراب الذات وفقد انساقها فيما يشبه حالة اليتم المفروضة في الان نفسه ولعل الاختيار يؤكد ان السؤال الفني هو سؤال حضاري بالاساس وان الذات المبدعة مشروطة بقدرها ان تعكس اصداء الموقع الحضاري الذي تنطلق منه وان تنخر خاضعة على نطع واقع مشتبه ملتبس مدخول بعلامات شتى لان الادب والفلسفة هما على صعيدين مختلفين تعبير عن رؤى للعالم وان رؤى العالم ليست وقائع شخصية بل وقائع اجتماعية.‏

يضعنا "نزيه أبو عفش" على حافة فردية موغلة فردية مشروعة لعلها عماد كل تميز فني فاختار ان يجعل من العنوان دلالة على ما هو راهن ويكون العنوان ايذانا بمكاشفة النفس وتعريتها لا لتنفضح كذات بل لتفضح الواقع الذي يعيشه الشاعر ونعيشه معه وتنفتح ثنائية الكشف وتزداد توترا بين الظاهر والباطن والذات والموضوع والجوهر والاعراض ولئن كانت الفردية من مداخل الذات المبدعة فهي عند نزيه ابو عفش تلاش وحلول في الانا وهي مركز الاثارة الشعرية منطلقا ومآلا وغالبا ما يفتح النص الحديث على مسالك الذات عبر توظيف رمزي للتراث العقائدي والاسطوري فكانت النبوءة الهاما عند الرومانسيين و(صلب المسيح )(وعشتار وتموز )وكان شاعرنا نيتشه رافضا متمردا على الصمت والخوف هاربا من الجبناء الذين يصلون بطاعة عمياء وتوجه الى عالم اخر لايمكن العثور عليه في شعر سواه واصبح الكون بفضائه لايتسع للذات المتألهة:‏

ما الذي ارغب في رؤيته غيري?..وما الذي?...‏

جئت اصلي لاله الضعف‏

جئت اعبد الجمال صامتا "الديوان ص13"

يأسرنا "نزيه ابو عفش" بفردية فيها تجاوز لانها ليست فردية الانغلاق بقدر ما هي فردية التعدد المسكونة بهاجس نتشوي يحيل على التحدي اكثر مما يحيل على الانكسار هي فردية وجودية لان الشاعر استبدل الحلول الميتافيزيقية بحلول اجتماعية فكان التلاشي في الذات هو انصهار في الطفولة وذاكرة موشومة بذكرى الاموات فيعمد الشاعر الى اللغة فيفرض عليها وبها سلطانها ويركب الخيال فيحطم الواقع ليعيد تركيبه وبذلك يتحرر من قيد الواقع ويعبر المثال فيتخطى اسوار المحدود ويتلاشى في المطلق وتغدو ذات الشاعر مرآة الحزن لانها تنطلق من الواقع كي تعود اليه مجددا في سعي لانبعاث ما عبر آلام مخاض فيه شيء من الروح وفيه كثير من نزعات الواقع تلك الروح التي جعلته يحلق في توتر بين الاستيعاب والنفور فيغدو تارة من مجانين الحق الذين يغلب عليهم البهت اولئك المأخوذين عن انفسهم كما وصفهم ابن عربي ويتأنس تارة اخرى فيجابه وحل الواقع بثورة رافضة فيها توظيف لرمزية التمرد في تراثنا.‏

رأيت الموت تحت جلودهم وشممت رائحة الدموع‏

رأيت غصتهم رأيت ندوبهم ودخان حيرتهم‏

رأيت الريح تخرج من معاطفهم فتتقد البروف‏

رفعت كفي في الهواء لاتقي ريح الرعاة فلم اجد كفي وذابت شهقتي في الريح‏

"الديوان ص24"

ويسعى الشاعر "نزيه ابو عفش" الى خلق رمزية مزدوجة وجهها الاول في توظيف علامات تراثية فيها عمق دلالي يحيلنا من الانجيل الى المسيح ومريم العذراء الى الملائكة ووجهها الثاني شغل في اللغة وتأكيد لايحائية الصورة الشعرية التي تأخذنا من عالم الاشياء الى عالم المراتب الشعورية لان الشاعر يعير الاشياء روحها الخاصة فلتبس الحقيقة شكل اللغة.‏

ويصبح القصيد كونا يعج بالاصداء والاصوات تختلط فيها الحالة بالموقف ضمن صياغة جديدة اساسها حرية الخلق التي يفرضها الشاعر بواسطة طاقة التخيل:‏

زرقاء روحي , اغاني زرقاء , صمتي ازرق , تنهيدتي, ضجر الحب ازرق , آلام نفسي زرقاء والخوف أزرق وحشة قلبي , جمال الخطيئة لون الهواء نحيب العصافير أزرق آنية الورد زرقاء والعطر أزرق صوت المرتل , ثوب الفتاة ,ضفيرتها , تختها , شهقة الدم طالعة من شقوق بكارتها تاج مأتمها ... ساعة الذئب زرقاء.. والذئب أزرق...‏

في ديوان اهل التابوت يصبح القصيد تجربة شعورية يكون الرمز فيها صلة تركيبية جديدة في الانتقال من الاشياء الى اللغة ويكون فيها الانزياح عن المألوف عبر تقنية تتجاوز المحسنات البديعية التقليدية بكثافة ايحائها وغالبا ما نجد التركيب في الصورة الشعرية مبتديا في نظام يوحد بين البنية والدلالة عبر تضامن ايقاعي في تماثلات توحد بين الاصوات ورموزها فتحمل الصورة بعدا يحيل على التجربة وكثافة الموقف وبعدا يحيل على الايحاء والشعور وبعدا يحيل على تناسق جمالي ويؤسس الشاعر صلة حارة بين الذات والموضوع فيغدو النص التحاما عب اصالة التجربة وفرديتها وعمقها وتتحقق بذلك مهمة الشعر أن يوفر لاقوى ما في اللغة ولأخفى وأغمض ما في العالم مكانا للقاء خاف وغامض كما تبدو التجربة مثقلة برؤى الفكر اضافة الى حرارة الوجدان فتحيلنا الصور عبر وظائف الرمز على اعماق موغلة تؤكد اصالة الذات المبدعة التي سعت الى ان تمثل الذات الجمعية وان تردد اصداء العصر الموتور بشتى تناقضاته في محاولة جادة لترسيخ مرجعية ممكنة تعيد للنص سنده وتعيد للذات كيانها:‏

أقف على باب الله كالشحاذ .. واتمتم:‏

يا رب اعدني الى رحم امي‏

لاتدفأ بظلام احشائها‏

وارضع اصابعي تحت دقات قلبها الزاهد الكريم‏

اعدني الى ما ء حنانها القدوس‏

حيث الشرنقة اضوأ من البحر‏

خلاصة القول: ان ما نراه هو أن "نزيه أبو عفش" قادر على تمزيق النسيج اللغوي وفتح آفاق جديدة من التعبير لكن هذه العملية لايمكن ان تأتي مصادفة او ارتجالا انها في الواقع بمثابة الصدى المباشر للمعاناة لهذا يقدر الشاعر على احتضان الواقع بكل ابعاده ومفارقاته سواء الثقافية او الاجتماعية وقد تسنى له الخروج من قيود الشعر العربي القديم دون السقوط في فقدان الهوية اي الانتماء الثقافي الحضاري هكذا يبدو خرق القوانين التقليدية المتصلة بنظامي العروض والقافية امرا وظيفيا اذ يصرف الشاعر "ابو عفش" الكلام على نحو يتلاحم فيه المبنى مع المعنى فيكون الصدق وتكون الاضافة ان معجم "ابو عفش" في طريقة ادائه الدلالي القائم على تداعي الدالات عبر المجاورة التي تجعل الدلالات تسلمنا احداها الى الاخرى يأتي في معظم الاحيان ان لم يكن دائما ناهضا في الوقت نفسه بوظيفة مجازية هي وظيفة المشابهة فهو معجم موظف من خلال التشبيه بمختلف انواعه والاستعارة بمختلف ضروبها للحديث عن موضوع ما يتعلق به هذا المعجم .‏

عودة