موقع الثورة

ماهر عزام



يأخذنا "تيسير خلف" في روايته الأحدث "عجوز البحيرة" إلى منطقة من داخل الإنسان ليست ذات عناية كافية من قبل المجتمع خلافا لما نالته من تركيز واهتمام في الأدب.

فاللجوء الفلسطيني ليس مجرد حدث مادي يمكن إخباره بجملة أو الحديث عنه كواقعة حدثت منذ خمسينات القرن الماضي , كما بدا بالنسبة للكثيرين ممن سعى لتوثيق هذا الحدث عبر الأدب , وهو ما يتجاهله تماما "تيسير خلف" حتى أنه لا يسميه , ولا يذكره إلا بجملة هنا وأخرى هناك.

ليس بقصد الإهمال بقدر ما هو انحراف لافت يثر القارئ للبحث في سبيل ملء هذه الفراغات , بينما انشغل هو بأمر آخر وهو تقصي المأساة في استمراريتها وكأنها لعنة حلت بشعب تلاحقه أينما ذهب , فالمأساة بدأت باللجوء إلى أماكن قيل لهذا الشعب بأنه سيعود قريبا , فظل ينتظر , هكذا كانت حياة الشخصيات في هذه الرواية تعيش الانتظار , انتظار الابن لموت أبيه , انتظار أم خالد لابنها الذي بعد أن عاد تمنت لو أنها ظلت طوال عمرها تبحث عنه دون أن يعود...‏

يتخذ "خلف" من الأسلوب الملحمي شكلا لبناء سرده حيث كل مقطع يتناول فيه شخصية واحدة تتمحور حولها الأحداث , ولكل شخصية حكاية لافتة , بينما تشكل هذه اللوحات بتراكبها فوق بعضها وإلى جانب بعضها البعض عالم الرواية , عن بشر يقطنون منطقة مخيم "اليرموك" دون أن يذكر اسم هذا المكان ولو مرة واحدة , إنما يكتفي بتوصيفه جغرافيا عبر جواره تارة , وعبر التطورات التي جعلت من هذا المكان الذي بدأ كتجمع للخيم وانتهى إلى حي اغتنى سكانه من تحويل أرض الخيم إلى أبنية حديثة تارة أخرى.‏

إن إصرار الكاتب على عدم ذكر المخيم بالاسم محاولة للقول بأن المكان "المخيم" لا يمكن أن يكون هوية لهذا الشعب وسيظل غريبا وملفوظا من محيطه وهو ما اختزله في نفور صديقة "صلاح" من المكان وسكانه.‏

تبدأ الرواية بالموت وتنتهي بالموت , فالابن "صالح" يموت في البداية لنعرف في نهاية الرواية بأنه مات بعد أم "أمات" والده "مصلح" وبتأثير من شعوره بأنه سيموت على يد ابنه "صلاح".

إذا عن أي يموت تحدث "تيسير خلف" وفق هذه المنظومة الثلاثية من الأسماء المتمحورة حول الصلح?‏

ليس في الرواية أي ربط مع البعد السياسي , إلا إذا كان الروائي يراهن على حضور الأيديولوجيا لدى القارئ , والتي لابد وأن تقوده إلى تأويل هو بمثابة ضرب رمل.‏

تنبني الرواية منذ العبارات الأولى لها على على أسلوب المونتاج المتوازي , حيث لكل شخصية ذاكرة مليئة بأحداث ما قبل اللجوء هي ذاكرة وطن بينما لها حاضر في المخيم هو ذاكرة اللجوء , الأولى سرديا تنسجها لغة شفافة وحالمة ومليئة بالمناطق الآسرة والرحبة في اتساعها , تسيطر عليها الأماكن المفتوحة والطبيعة الجميلة , بينما الثانية مليئة بالبؤس والحرمان والأماكن المغلقة المحاصرة للشخصيات والكابسة على روحها .‏

هذا التباين بين ماض زهري وحاضر قاتم يكاد يلخص إحدى مشاكل اللجوء , والتي لا تجد مشتركا بينها سوى في أحلام اليقظة الملتبسة على الشخصية وعلى القارئ وكأن الكاتب يرى في هذا الالتباس ما يجعل الحلم مستمرا وقابلا للحياة.‏

وإذا كان اللجوء هو تحول من حال إلى حال فإن معظم الشخصيات اجتازت ذاتها من حال إلى حال ك"خالد" والشيخ "أبو إبراهيم" و"فضة" , فثمة عوالم تنتقل إليها الشخصيات لتكشف عن القلق الذي سببه اللجوء.‏

وأخيرا فإن ما لفت نظري في هذه الرواية في أنها تتكئ على البساطة في عرض الحدث إذ تغيب تماما المقولات الجاهزة والعبارات الوعظية والجمل الاستعطافية والوصف الرومانسي في تناول حياة اللاجئين , حتى أنه يلجأ إلى موضوعة الرائحة ليميز حياة هؤلاء البشر عن محيطهم حيث يقول: «لم تكن تلك الرائحة مبعث أرق يومي وحسب, بل كانت أيضا ذلك العالم المنتشر داخل بيوت حي الخيام وبين أزقته, كلمة السر التي يفهمها الجميع ولا يصرحون بها..كانت تلك الرائحة عالما كاملا ينخ بثقل على صدر صلاح...».

وكأن الرائحة صورة عن هوية حي "الخيام" بأمكنته وهوائه وناسه , إن هذا الاستنتاج يجد امتدادا له داخل السرد وفي أكثر من موضع, الأمر الذي يبدو وكأنه مقصود , وهذا ما يجعل القارئ يدقق في رؤية الكاتب لهذا المكان وهؤلاء الناس , سعيا لإيجاد رؤية مختلفة للجوء , لكن ما يخشى أن يصل القارئ إلى رؤية مخالفة .

عودة