بما أن الحكاية هي بنية ذاكرة تنظم مجموع عناصر السرد المستترة والظاهرة ، ليس بفعل التجاوز فقط إنما بفعل تباعد العناصر السردية ذاتها عن بعضها البعض ، عندها تبدو الوحدات السردية بالنسبة للنسيج الحكائي متقطعة لكنها من جهة أخرى تنتظم في برنامج سردي ينتج عنه نموذجه الخاص الذي يحول الحبكة المألوفة إلى شبح يظهر مرة ويختفي ، طالما يتناسب الأمر مع موضوع أساسه ، رحلة بحث تقوم بها ذاكرة ليس في ماضيها إنما في الذاكرة نفسها .

ويلعب الكاتب بذلك لعبة أخرى ، إنه يحول متعة الحبكة إلى متعة من نوع آخر ، متعة صيد صور ذاكرة تتشكل من عناصر سردية شعرية ، تريد خلق مشاركة ممكنة بين سارد الرواية وبين متلق لايراد له أن يكون أسيراً للسرد ، إنما تحاول طريقة السرد ، أن تدفعه إلى استحضار صور أحداث من ذاكرته لتجعله يساهم في إتمام حكاية السارد.



قيس الزبيدي



- تنتمي رواية "حديث الكمأة" ل"صبري هاشم" إلى النمط السائد من الروايات العربية وذلك لعدة أسباب من بينها رمزية النص واللغة الشعرية والمكان الإفتراضي.

وقبل الخوض في تفاصيل البُعد الرمزي لهذه الرواية لابد من الإشارة إلى الدلالة المجازية التي ينطوي عليها عنوان الرواية الذي يعني "الخير النادر".

وقد جاءت هذه الدلالة المجازية بصيغة الجمع "الكمأة" ومفردها "كمْء"، وربما تذكِّرنا بالحديث النبوي الشريف:"الكمأةُ من المَنِّ وماؤها شِفاءٌ للعين".

من هنا يستطيع القاريء الكريم أن يتلمّس المعنى الدقيق لخير هذا النبات وندرته في آنٍ معا.

وسوف تقع أحداث الرواية في "أرض الكمأة"، المكان الإفتراضي المُتخيَّل الذي يُحيل من دون شك إلى العراق، آخذين بنظر الإعتبار أن الروائي قد إعتمد على تقنية "الفلاش باك" في إسترجاع الأحداث أو في كتابتها ، فلا غرابة أن تبدأ الرواية من فصل تمهيدي عنونه الروائي بـ "ذاكرة" لأنه قبل أربعين عاماً ، وبالتحديد حينما كان عمره ست سنوات ذهب مع جده لكي يغزو الكمأة أو يجنيها في عقر دارها ، وهذا مدخل إسترجاعي ناجح يعيدنا إلى صفاء الحياة ونقائها قبل أن تتلوث على أيدي الأشباح القادمين من وراء الحدود أو من داخلها ربما! وفي فصل النهاية يقول الراوي بأنه عشق خولة الياسين وهام بها حُباً ، فهي التي فهمتهُ وقدّرت ولههُ، لكنها ضاعت منه ، وتلاشت في أفق الحرية المفتوح وسوف تأتي إليه كلما هبّت أنفاس اللوعة.

تتكرر هذه المداخل الرمزية الدالة ففي البداية الثانية يغازل القمر خولة الياسين فيرد عليه الراوي «أيها القمر اللعين "لقد" إغتصبتها على غفلة مني» وفي النهاية الثانية يركِّز الراوي على ذاكرته التي سحقته ، تلك الذكرة المتهيّجة القاتلة ، ثم تنطلق البداية الحقيقية للرواية حيث نتعرّف على عائلة "خولة الياسين" التي غادرت بلدة "تفاحة الريح" بسبب كارثة طبيعية رُمِز لها بتوقف الهواء في سمائها على الرغم من موقعها الجغرافي الكائن على أرض مرتفعة بحيث تبدو للناظرين وكأنها معلقة في الريح! لا شك في أن أرض الكمأة تستقطب الناجين من الكوارث الطبيعية ، والهاربين من قمع الأنظمة المستبدة ، والباحثين عن بصيص أمل في هذه البلدة المتحضرة التي شيّد أبناؤها حضاراتها المتعاقبة على مرِّ العصور، غير أن السؤال المهم الذي ينبري أمامنا هو: كيف خلق الكاتب شخصيات نصه الروائي ، وكيف نمّاها وطوّرها خلال هذه الرحلة الزمكانية البعيدة نسبياً؟ لنتعرّف على شخصيات النص التي تنتمي إلى ثلاثة أجيال.

فعائلة "طارق الشاهين" تتكوّن من الأب البنّاء "شاهين" وأمه صانعة الكحل "زينب الهادي" وشقيقته "هند"، كما تضم العائلة الجد الطاعن في السن ، الحسن بن تميم، الذي كان بنّاءً ومهندساً للبلدة.

أما عائلة خولة الياسين فتضم سبعة أفراد وهم الأب "ياسين" والأم "شمس" وأخويها "مسعد" و"سليمان" وأختيها "لبنى" و"أروى" ، إضافة إلى الجد شهاب الأزدي الذي ورث منه الأب ياسين الحكمة.

وهناك شخصية امرأة المقهى التي سنعرف لاحقاً أنها "هدى" ، المرأة الثانية التي أحبها "طارق الشاهين"، وهناك طبعاً رفاق المقهى الذين الذين ذهبوا في سفرة مريبة وظل الراوي يترقّب عودتهم.

الشخصيّة الحُلُميّة

تقتضي الرواية الشعريّة النبوّ عن الواقع والتحليق بعيداً عنه.

ولو تأملنا معظم شخصيات هذا النص الروائي الشعري لوجدناها شخصياتٍ حُلُميةً مجنّحة. دعونا نبدأ بشخصيّة "خولة الياسين" التي قدِمت من "تفاحة الريح"، وكيف قدّمها لنا كاتب هذا النص ومبدعه.

فبعد وصولها إلى الحيّ بأقل من ساعة قال عنها الراوي : «خولة جوهرة فاتنة هبطت من السماء في غفلة من الملائكة. . نبتة بسقت من أرض طيّبة فاح أريجها».

وعندما يصف أسنانها المنضّدة البيضاء يقول : "لؤلؤ لمعَ في شقِّ الجُلَّنار"، وحينما طلب من أمه أن تصنع لها كحلاً أزرق سألته مستفهمة : لِمَن يا قرّة العين؟ فأجاب : لبحرين سماويين صافيين ، متعبين ، قادمين من أقصى المجرّات".

لا تقتصر هذه التوصيفات على "خولة" وحدها ، وإنما تشمل معظم الشخصيات تقريباً .

كما أن أفعال هذه الشخصيات شعريّة وحالمة ، «فجدهُ يسبح مع الحَمام ويرقص بالخيزران»، وشقيقته "هند" تستدرج الفراشات إلى قطرات الطلِّ المتفرقة على أفراح الجوري في سماء الخميلة".

وعلى الرغم من واقعية مهنة الأب "شاهين" فهو بنّاء ماهر إلا أن شخصيته حُلُمية ربما بسبب سقوطة في النشوة الدائمة وتوقه الدائم للإبحار بعد أن "ملَّ من تشيّيد القصور ومن مداعبة الحجر" فهذا البنّاء يريد الريح.

ثم يصل به التحليق إلى الحد الذي يدفعه للقول : «نحن بشر لا نسكن سوى الهواء. . نحن بشر من ريح!».

لا شك في أن هذه التجليات الوصفية تنسجم مع المنحى الشعري العام لمناخ الرواية ، فلا غرابة إذاً حينما ينأى النص عن البنية الواقعية ويستجير بالبنية الحُلُمية ذات الأبعاد الرومانسية المعروفة.

ثيمة النص الشعرية

تقوم بنية هذا النص الروائي على ثيمة شعرية محددة وهي قصة الحُب التي تندلع بين "طارق الشاهين" و"خولة الياسين" بعد وصولها بأقل من ساعة إلى مضارب "أرض الكمأة".

ونظراً لخصوصية هذه العلاقة العاطفية فإن الراوي يستعمل أسلوباً محدداً في توصيفها ورسم ملامحها وكأنه يحاول أن يقترب من الآي القرآني أو يحاذيه في الأقل ، وسنكتفي بإيراد مثلٍ واحد على الرغم من وجود أمثلة عديدة تعزز ما نذهب إليه.

«أيها الناس مَنْ رأى منكم "خولة الياسين": فارعة الطول، باهرة العينين. . كثيفة الشعر، نضرة الخدين. . بهيّة الطلّة، ندية الشفتين؟» إن امرأة بكل هذه المواصفات الآسرة لابد أن تحتل قلبه وذهنه ومشاعره في آنٍ معا.

ولأن الروائي ليس ميّالاً إلى الإسهاب والإطناب فقد إختصر كل جهوده الجهيدة في تثقيفها بجملة مركّزة واحده مفادها "أنه سكبَ في أذنها قطرة معرفة!" وكانت هذه القطرة السحريّة كفيلةً بأن تقلب حياتها رأساً على عقب لتغيّر في نهاية المطاف مسار الرواية وتأخذه بالاتجاه المعاكس تماماً لتوقعات القاريء.

وفي أثناء إتقاد شرارة الحُب بين العاشِقَين طارق وخولة يسطو الأشرار على أحوال أرض الكمأة بقرصنة واضحة في رابعة النهار ، ولا يحتاج المعنى الرمزي لجهد كبير لفك "شفرته".

وعلى الرغم من تدهور أوضاع أرض الكمأة إلا أن العاشِقين يتزوجان ، لكنهما يقرران الرحيل إلى الخارج ويستقران في ألمانيا ، وبالتحديد في مدينة زلتسا التابعة لمقاطعة "هانوفر".

تتشعب أحداث الرواية وتتخلص من المسار الواحد، وهذه لعبة فنية ذكية من كاتب النص ومبدعه حيث منحنا فضاءات جديدة وسعّت من مساحة النص الروائي من بينها إختفاء "مُسعد الياسين" ، وظهور الاشباح الذين كانوا يرشون أرض الكمأة بالمواد القاتلة، وقيام رفاق المقهى برحلتهم الغريبة وما إلى ذلك من قضايا سنأتي على ذكرها لاحقا.

يثير الراوي أسئلة عدة أبرزها: هل عاد "ياسين" إلى حديقته؟ وهل إلتقى جده الحسن بن تميم بزوجته الغزالة؟ وأمازالت شمس ، أم خولة ، تتكحل بكحل "زينب"؟ وهل ثاب الكمأيون إلى رشدهم وتخلصوا من قبضة القرصان؟

نعرف من السياق السردي أن جد الراوي، الحسن بن تميم قد فارق الحياة بعد أن غزا الأغراب أرض الكمأة، ويبدو أنه مات كمداً لأن القلّة من الشرفاء هم الذين دافعوا عن أرض الكمأة، ومن خانوها وغدروا بها كانوا كثرة من السفلة والمنحطين.

كان "مسعد" يرى أشباحاً تتحرك على أرض الكمأة ثم تبين له أنهم يقومون بالصدمات الجينية للكمأة وحينما غاب أو أُختطف ترك دفتر مذكراته الذي دوّن فيه الملاحظات التالية: "في الصباح تزورنا أشباح، تأتي من وراء حدود أرض الكمأة.

تقرأ الوصايا المنسوخة على الجدران بلغة غير مفهومة ثم تباشر عملها، فترشّ مادة لم نتبيّن كنهها إلاّ بعد فوات الأوان. أنها الصدمة الجينية القاتلة للكمأة". حزنت هند كثيراً فاكتشف طارق أنها تعلقت بمسعد.

بعد إستولى البغاة على أرض الكمأة، وتكاثر الدخيل وتضاءل الأصيل ، قررت "خولة" أن تسافر مع "طارق" من دون ضغط أو إكراه «معك سأرحل ولو إلى آخر الدنيا وبإرادة حرّة».

قد يُفاجأ القاريء بأن "خولة" التي أحَبَّها "طارق الشاهين" لم تبقَ معه سوى سنة واحدة بعد وصولهما إلى زلتسا وقد طلبت منه طلباً غريباً وهو أن يساعدها على تحطيم قيودها وأن تصبح حرّةً طليقة، فهو لا يرى هذه القيود، بينما هي تراها وتشعر بها.

وعلى الرغم من غرابة الطلب إلا أنها وعدته بأن تعود إليه "كلّما هبّت أنفاس اللوعة".

لم يبح طارق بهذا السر إلا لامرأة المقهى التي غادرت هي الأخرى أرض الكمأة وحصلت على عنوان طارق "الشاهين" من "خولة" نفسها ولكنها لم تعثر عليها حينما وطئت قدماها أرض زلتسا.

وعلى عكس توقعات القاريء أيضاً يحب "طارق الشاهين" امرأة المقهى التي تمّل من هذا التوصيف فتطلب منه أن يناديها باسمها الحقيقي "هدى"، ثم يعدها بأن يأخذها إلى حدائق الملوك في اليوم الثاني ، وحينما تخبره برغبتها في الرحيل يطلب منها أن تبقى معه فترتمي بين أحضانه.

قد يتساءل القاريء كيف أحبَّ "طارق" "هدى" بهذه السرعة؟ وكيف مارس معها الحب متناسياً علاقته الروحية مع "خولة الياسين"؟ يا ترى ، هل يستطيع العاشق أن ينسى حبه الأول بواسطة حب جديد؟ وهل تسطيع "هدى" أن تمحو "خولة" من ذاكرة "طارق الشاهين"، هذا العاشق المدنّف الذي كرّس حياته ل"خولة الياسين"، ولكن هذا الحب المُبالغ فيه قد تحوّل إلى أغلال منعت خولة من التحليق وتأكيد الذات الحرّة التي ساهم "طارق" في تلقيحها بقطرة المعرفة.

لابد من الإشارة في خاتمة المطاف إلى أن الروائي "صبري هاشم" قد أفلح في رفد المكتبة العربية برواية شعرية متميزة تتوفر على معظم إشتراطات النص الروائي الشعري الناجح من حبكة قوية، وشخصيات فاعلة تتحرك في فضاء سردي متواتر زرع في ذاكرتنا أمكنة حقيقية ومصطنعة في آن معا.



عدنان حسين أحمد

عودة