"على حافة الجنون" للأسير السابق الراحل إسماعيل دبج



بقلم: د.عدنان جابر

وأنا أقرأ قصص ونصوص "على حافة الجنون" للمناضل والأسير السابق الأردني الأصل الفلسطيني الانتماء الذي رحل بتاريخ 10-12-2006، تداعى إليَّ ما قاله المبدع الراحل "ممدوح عدوان" في الحوار الأخير معه الذي أجراه علي سفر ونشرته صحيفة "الرأي" الأردنية بتاريخ 24-12-2004، قال الراحل عدوان: "حساسيتنا مثلومة..هنالك عالم يدفع إلى الجنون، ونحن لا نُجَن" .

المعنى الإبداعي لهذا الجنون ليس بالتأكيد أن نقيم في مشفى الأمراض العقلية بالمعنى الحرفي والمرضي للكلمة. الجنون الذي يعطيه الإبداع معنى رمزياً دلالياً هو الخروج على المألوف، والسائد، والمكرس عندما يتعلق الأمر بالحساسية الإنسانية إزاء الظلم والقهر واللامبالاة والجمود الذي يعطل الخيال أو يستدعي الغضب.

ربما يكون التأرجح على حافة الجنون أخطر من الاستقرار في الجنون، وأكثر مدعاة للنبش والتساؤل. إن مؤلف "على حافة الجنون" هو أسير سابق قضى في سجون العدو الصهيوني 15 عاماً، خبر أو رأى شريطاً من الغرائب والمفارقات التي تحض على الجنون، وإن كان مكتوماً بين الجوانح، أو قد يكون قد خبر أو رأى صوراً من امتحان الإرادة أمام السجان، وإزاء أشكال الإقصاء التي تنطوي عليها الحياة خلف القضبان، حيث تبرز الحاجة إلى التماسك الداخلي عندما لا يكون برفقتك سوى ذاتك، حيث هنا.. والآن اختبار الجسد أمام الجلاد والحرمان، والروح تطلق نشيجها أو غناءها، حين يتكلم الألم.

قصص ونصوص هذه المجموعة لا تتأطر فقط ضمن أسوار السجن مكانياً ونفسياً، وهي ليست كتابة سياسية حصرية، عندما يتم إبراز القسمة بين "السياسي" و"العاطفي"، رغم أن الأسير هو كائن سياسي بامتياز ، لكنه قبل كل شيء إنسان، قادر على المواجهة والتحدي والتضحية، وقابل للحب والحزن والهشاشة.

زمن الكتابة لا ينتمي إلى وضعية "أسير سابق" أو "أسرى سابقين" فقط. هنالك نظرة قاصرة إلى "السجين السابق" عندما تنحصر قراءته في استنطاق حياته ومشاعره داخل أسوار السجن، دون مقاربتهما وتأملهما خارج السجن. الأسير، أو السجين السياسي يستمر "سجيناً" بصور مختلفة خارج السجن أيضاً، يحمل السجن حيثما ذهب، في استقباله للعالم، في الذاكرة، في بعض العادات التي لصقت به، بعض الرغبات والميول، الأحكام والخيارات، في حساسيته النفسية والإنسانية، وموقفه حيال القمع والحرية، ناهيك عن أن هذا "السجين السابق" لا يستمر "سجيناً" بسبب نظرته إلى ذاته فقط، بل وبسبب نظرة الآخرين إليه.

في القسم الأول من الكتاب، هناك اثنتان وعشرون قصة معظمها قصير الحجم تشكل 90 صفحة، وفي القسم الثاني هنالك ستة نصوص تشكل 30 صفحة، أعطاها الكاتب وصف "نصوص غير ملائمة"، للسخرية مما ينطوي عليه الصراع والسياسة من مفارقات، والاحتجاج على الظلم واللامبالاة إزاء الإنسان. وقبل أن نقارب بعض القصص نقول أنه كان من الأفضل للمؤلف لو اقتصر الكتاب على القصص ولم يضع النصوص معها بل يخصصها لكتاب آخر. النصوص هي: برقية عزاء إلى شيرين حداد، إلى عبد الله اغبارية، إلى محمد الدرة، إلى الشهيدة إيمان حجو، إلى وفاء إدريس، برقيات فلسطينية. هذه النصوص تتناول أسرى وشهداء ومشاهد من حالات الحصار التي عاشها وما زال يعيشها الشعب الفلسطيني، وملاحظتنا بعدم وضع هذه النصوص في كتاب يضم قصصاً ليست حكم قيمة عليها، فهي مكتوبة بأسلوب جميل ولغة مؤثرة، ولكن لأن كلاً من القصص والخواطر السياسية تنتمي إلى جنس مختلف، وتحتاج إلى قراءة نقدية تناسبها.

المفهوم الأبرز الذي يشيع في معظم قصص المجموعة هو معنى "الفقدان". في قصة "حسابات ونتائج" ينتظر الرجل موعد قدوم المرأة التي يحب، ينشغل بترتيب الغرفة، يضع الورود في المزهرية، ويطمئن على سلامة الوضع، وعندما تأتي يقرر أن يلعب لعبة التلكؤ، "قبض بكفيه على ساقيه لئلا تسيرا رغماً عنه، وانتظر عودة القرع مجدداً"، لكن عندما يسمع خطوات ابتعادها يهرع إلى الباب ليناديها، يفاجأ بأمر أفسد عليه انتظاره ولهفته، أدارت رأسها لتقول له "كنت قادمة لأعتذر على أي حال"، ومضت.

وفي قصة "الطفلة هاجر في مخيم جنين"، يصور المؤلف مشهداً من الفقدان المتصل. تستغرب الطفلة كيف أن أباها القتيل لا يتكلم "وضعت كفها تحت رأسه تريد دغدغته كما تفعل عادة، فتلونت يدُها بمادة لزجة حمراء فبكت وحملت أعوامها الأربعة وهرعت مذعورة نحو بيت خالتها في الجهة الأخرى من المخيم". لكنها لا تدري بأن خالتها أيضاً مقتولة "حضن خالتها ليس دافئاً كعادته" .. "عانقت خالتها وأخذت من بين دموعها تشرح لها حال أبيها الغريبة. لأول مرة يرفض ملاعبتها!"، وعندما رأت الجنود فوق رأس خالتها يصوبون البنادق نحوها، انتصبت تريد حمايتها، نزعت فردة حذائها المتبقية وقذفتها صارخة "أكرهكم". وتنتهي القصة بلقطة معبرة: "لم يعثروا على جثة أبيها ليدفنوهما معاً".

أما في قصة "الميعاد"، أطول قصص المجموعة والتي تتميز بحبكة سردية وفنية متكاملة، فيصور الكاتب لقاء شخص مع أم فقدت أصغر أبنائها، وتنشأ بين الاثنين علاقة أم بابنها. كل يوم يذهب لزيارتها في عز الحر مشياً على الأقدام، تسقيه الماء من إبريق فخاري مركون في الظل إلى جانبها، وتسأله إن كان جائعاً، تمسح جبينه ووجهه ورقبته بمنديل مبلل بالماء، وتهتم بحاله: "في الشمس عليك أن تداري حالك. الشمس غدّارة في الربيع. وهو " قد داهمته الرغبة في تقبيل يديها. ولباس الرأس هذا ما أجملة وأنظفه. وهذا الوجه الجميل ما يحزنه؟!..أمه أيضاً تبقى حزينة. ألها ابن غضوب؟ أمه تقول إن أكثر ما يحزن الأم هو الابن الغضوب. إنه يترك جرحاً عميقاً في الأمومة". ويأخذ الشاب المنديل قائلاً لها: "المنديل أمانة معي وسأعيد الأمانة. سأرجع لأعيد الأمانة".

في اليوم التالي يصل متأخراً ويفاجأ بموتها. يحيط به أبناؤها جميعاً ويمطرونه بالعبارات: البقية بحياتك.. توفيت الوالدة اليوم بعد الموعد بساعة.. قلنا لها أنك ستأتي.. لم تصدق.. قالت لقد أضعته إلى الأبد. لقد تكلموا عنه و"عنها" دون أن يتبرع أحدهم ويشرح له القصة. وعندما ألح على التفسير أخبروه أنه يشبه ابنها الأصغر المفقود والذي لا تدري إن كان شهيداً أم أسيراً. "لم تنفع محاولاتنا لإقناعها بأنك آت حتماً. قالت فقدته للمرة الثانية، وأسلمت الروح". ويلومه أحد الأبناء ساخطاً وهو يودعه" لماذا جعلتها تفقده مرتين!"، فيتمتم لنفسه: "كلنا نفقد مرتين".

أزعم أن إسماعيل دبج حتى وإن كان يكتب عن أم شخص آخر، فإنه كان يكتب عن أمه هو، أمه التي منعته مخابرات بلاده من وداعها وطلب رضاها قبل موتها كما ذكر في رسالة وجهها إلى الملكة رانيا ونشرتها صحيفة "المجد" الأردنية بتاريخ 5-1-2004.

إذا تجاوزنا السياسي هنا إلى الأدبي، يمكننا أن نقول: عندما تموت أم ما نتذكر أمنا، "نفقد مرتين"، سواء كانت أمنا على قيد الحياة أو كانت راحلة، الأم، هذا الكائن الجميل الذي قال عنه أحد الشعراء: "الأم أعظم من أخصب". أمنا، حتى وإن ماتت، لا نريد أن تموت، من شدة حاجتنا إليها، ننكر حقها في الموت، وحقها في التقاعد من متاعب الحياة.

من بين 22 قصة لاحظت أن هنالك 9 قصص لها علاقة بالسجن وعالمه وأبعاده. فهنالك قصة الميعاد، الآنفة الذكر، وهنالك قصتان قصيرتان جداً هما "السجان والهدية" و"احتمال أساسي"، وتحت عنوان "مقطع عرضي من ذهن أسير سابق" هنالك 6 قصص هي: انكشاف اللعبة،سعيد والقطة، رسالة إلى الصليب الأحمر الدولي، المحاسب الثوري، تلك الليلة من ليالي الوطن، مدارج العدالة.

في قصة "مدارج العدالة" نرى السخرية التي تصل إلى حد التراجيكوميدي أو الضحك الأسود أو شر البلية ما يضحك، هذا الذي نجده في عالم السجن، سجن واقعي، أو خيالات سجن تغذيها علاقة ظالمة بين الأسرى العرب وسجانيهم الصهاينة. أسير، قليل الكلام، لا يحب المشاكل، يتم استدعاؤه وتعاقبه إدارة السجن أسبوعين في الزنزانة، بتهمة عجيبة غريبة: أحد الحراس اشتكى للمدير بأن هذا الأسير قد شتمه وهدده وقال بأنه سيقتل كل اليهود وخاصة "الغروز" (اليهود القادمون من جورجيا السوفيتية)، وكان ذلك في الحلم، السجان حلم ذلك!، والمدير الذي أقر العقوبة، أخذ بكلام اليهودي ولم يأخذ بكلام "المخرب"!

أخيراً، سأتكلم عن قصة "تلك الليلة من ليالي الوطن"، وهي قصة أثيرة لدي كقارئ وكأسير سابق، وأعتقد بأن هذه القصة لها وقع مميز خصوصاً على القراء "الأسرى السابقين" وخاصة ممن كانوا في سجن عسقلان.

تعكس هذه القصة حالة الأرق التي يعاني منها الأسير، الذي تجذبه النافذة والشجرة القريبة وصوت الريح والمطر، يتابع باهتمام وقلق صوت العصافير وذعرها، الذعر الذي يسببه هجوم البومة التي تصطاد واحداً منها، يندغم الأسير بهذا المشهد المفعم بالأحاسيس والخيالات والعتمة والضوء الخفيف والضوء الشديد الذي يسلطه السجان على كل من يقبض عليه متلبساً بعدم النوم - بحالة أرق، وما أكثر ما يؤرق السجين.

تحضر ذاكرة الأسير فيقارن بين العصفور الضحية، والعذراء التي كان يقدمها أهل القرية لوحش البحيرة حتى لا يدمر القرية، ويتركهم بسلام، ويتساءل الأسير لماذا لا يرحل سكان القرية بعيداً عن الوحش، وفي لحظة يكتشفه السجان ويأمره بالابتعاد عن النافذة، ليختم القصة هكذا: "الكل تحت الأغطية بأوضاع مختلفة. أجساد تحمل أشواقاً وأماني. ترى بماذا يحلمون، وبماذا يحلم كل واحد منهم الآن، جال بصري عليهم بسرعة فأخذني حب غامر لهم جميعا،ً وقلت: "وأنتم أيضاً لا ترحلون".

يقول دوستويفسكي في "ذكريات من منزل الأموات": "إن جميع السجناء أناس حالمون.. السجناء أناس ألفوا أن يطلقوا العنان لخيالهم، وتعودوا أن يحلموا كثيراً". نعم لولا الخيال لمات السجين من القهر. وإذا كان للمكان جمالياته، فللمكان كذلك عذاباته، بالخيال نعوض عما فقدناه أو عما حرمنا منه، وبالخيال نتصل بالوطن، ولو من خلال شجرة وحيدة في باحة سجن عسقلان.هكذا تبدو الحياة وكأنها سلسلة متصلة من "الفقدان". أشياء عزيزة، ومشاعر، ومواعيد، وأعمار، وأماكن، وحياة بأكملها تتسرب من بين أصابعنا، يتم بترها، سلبها، القضاء عليها، اختفاؤها، حرماننا منها، لتتركنا على حافة الجنون.

لقد وجدت أن كتابة إسماعيل دبج تتميز بما يلي:

1- قدرته على التقاط المواضيع المفعمة بمضمونها الإنساني العميق.

2- قوة الصورة في كتابته، ما يعكس الأحاسيس والدلالات.

3- استخدام المفارقة والسخرية والنهايات المفاجئة أو العبارات المكثفة التي تُعبِّر عن تناقض أو حكمة.

4- وجود "اقتصاد اللغة" في كتابته وعدم وجود "زوائد لغوية"، سواء في قصصه القصيرة جداً أو في تلك الطويلة نسبياً.

إسماعيل دبج متنوع في كتاباته، كتب المقالة السياسية والدراسة والسيرة الذاتية والقصة القصيرة وترجم كتباً عن اللغة العبرية. إن تأمل اللغة الأدبية لإسماعيل دبج في مجموعة "على حافة الجنون" وخصوصاً في قصة "الميعاد" الطويلة نسبياً، وكذلك تأمل اللغة في كتابه "ذكريات مبعثرة" الصغير الحجم (53 صفحة من القطع الصغير) وهو كتاب يقع في باب السيرة الذاتية وفيه غوص سيكولوجي للعالم الداخلي للكاتب ذاته، كأسير سابق، لمشاعره وأفكاره إزاء الأسر وإزاء الحرية والتحرير من الأسر، وفيه تأمل شفيف وحزين لهذين الأمرين: حلم الأسير الدافىء وهو في الأسر، والواقع الذي يعيشه بعد انعتاقه من الأسر، بما يحتويه هذا الواقع من انكسارات وكآبة واستدعاء للتحدي، نقول إن تأمل لغة إسماعيل دبج في "على حافة الجنون" وخصوصاً قصة "الميعاد" وكذلك لغته في "ذكريات مبعثرة" يجعلنا نستنتج أن إسماعيل دبج كان يمتلك القدرة الفنية الأدبية للكتابة الروائية، لكنه رحل من دنيانا وقد صدرت له مؤلفات هامة وقيمة لكنه لم يتمكن من كتابة الرواية التي نعتقد أنه كان يقدر أهميتها، وكان يجول في خاطره حلم كتابتها.

عودة