-أعتقد أنه سينهب المسافة ركضاً بين المحطة والبيت، ولكنه مشى مثل السحابة، متهادياً كأنه لايريد الوصول، يحاول أن يشد الخيوط التي تفر من بين أصابعه كالرمل، يضيق صدره عن تفسير لهذه الكآبة المفاجئة، فتخفق فوق رأسه أجنحة العقل الرمادية، يفكر، يشرد، وينخسه زعيق سيارة فيقفز مذعوراً، لارغبة لديه في الرد على الشتائم، ولامزاجاً رائقاً ليعتذر،



-لم تصدق أكاذيب بنات عمها عن المدينة الغول، وعن أهلها الذين يخدعون الفلاحين ويدخلون فيهم كالنعاس، ونمت بجانب الزنبق حتى صارت العيون ترمقها بنظرات لاهثة، فانفصلت عن هذا الأخضر الزاهي وانتقلت إلى الجامعة، لكن رائحة الحقول الطيبة بقيت عالقة في جسمها، وظلت تحيات القرويين التي تلقى بمعرفة وبدونها مشرقة في عينيها وفي عفوية يديها. وعلى الرغم من أن الحجل الذي في صدرها كان تواقاً للطيران بتأثير الحر والزحمة التي تثير الرغبة إلا أنها أحكمت أزرارها، ورسمت طريقاً لنفسها،



-هي نسمة أخبرته أن المكان ليس له وحده، أجبرته على النهوض والبحث عن مصدرها. وإذ اكتشف شقوقاً أخرى في النافذة الموصدة لمعت فكرة أمام عينيه كالفراشة، لاحقها فاختفت. شرد قليلاً، ثم رآها من جديد، فطاردها كما كان يفعل في الحقل هناك.. بعيداً.. عند سفح الذاكرة، لماذا لايصنع خزانةً يضعها أمام النافذة، هكذا يتأكد من أن تنهيدة واحدة لن تخرج من هذه الغرفة، وهكذا يواري ثيابه المشنوقة على الجدران.



-أدرك الآن أنني أبله وضعيف، وأن أعصابي أوهى من خيوط العنكبوت، ولكني لازلت أتشظى حزناً وشوقاً إلى رندة.

ورندة ليست كالفتيات ولاحتى كالعفاريت، أرى ملابسها تسير أمامي، كأنها شبح منقوش على زجاج نظارتي، أسرع خطوي فتسرع، أتباطأ فتختفي، تجلس إلى جانبي في باص يعبر الوقت أنظر من نافذته لألمحها تشتري ورداً عند ناصية الشارع. ألتفت لأجد مقعدها شاغراً..



-لم يقع في الجبّ، لكن المدينة انسلت من بين أصابعه كالخدر واستحالت إلى خرائب وشوارع امتلأت بالحجارة والنفايات والجثث التي باحت بآخر أسرارها لليل، فما وجدت يداً تؤنس وحدتها أو تلقي عليها ولو شالاً يقيها برودة الغدر.

عودة