- أنا بدوري أحمل ذكرى تلك الأيام ، أخزنها في عيني، لازلت أمامي دارها يوم ذهبت في صباح ذلك اليوم ، أرادت أمي أن تطمئن ، فأرسلتني.

كانت الأبواب مغلقة في وجهي للمرة الأولى في حياتي ، ورائحة الرحيل تملأ المكان ، استولى عليّ الرعب، انهزمت مرذولاً مطارداً أنظر ورائي في وضح النهار ، ماهذا الوحش الذي يسمونه الرحيل ، وكيف يحمل الناس ويطير بهم؟ أين يأخذهم؟ أردت أن أفرش أحزاني أمام أمي لكنني فشلت ، غير أن الهلع الذي ارتداني وتلبس وجهي كان كافياً لإظهار ذلك.



- كان نشيد صاخب ، قرأته في أعماقها : «ياأهل خازمة خفوا لاستقبال مدللي ، إنها قادمة نحوكم تحمل لكم الرجاء والمسرة ، وتصلي صباح مساء من أجلكم ، ومن أجلكم أيضاً تمارس أنواع الطقوس المختلفة.

زرعتكم في عيونها أملاً وشوقاً ، أقامت لكم في قلبها معبداً ، نسجت من حكاياكم ميثاق ولي الزمان ، وانهدت من الرقص ، أجل إنها ترقص لكم، في يديها منديلان ، وعلى وسطها شال أحمر، وتعال يانغم الأحبة تعال».



- المصباح الذي أخذ يشع في بيتها ، أضاء قلبها قبل أن يمتد شعاعه المبهر إلى أي اتجاه آخر.

وهي إذ توقد شمعة هذا اليوم باتجاه المستقبل... مستقبل قاسم ، فقد امتدت قامتها باتجاه النور الصاعد ، حتى بدت كأنها عمود من الضياء يبدأ من أول خطوة لفارس باتجاه المدرسة ، وينتهي في المدى الأبعد.



- أعلنت موافقتها ولكنها أصرت أن تبوح أن الخروج من البيت كان يرهقها ، يسبب لها حرجاً كبيراً.

يشعرها بالغربة إلى حد قاتل ، فما أن تخرج إلى الشارع حتى تشهر هويتها فوق رأسها.

هل صحيح أن كل الناس كانوا ينظرون إليها؟ هكذا تهيأ لها من أين جاءها هذا الاحساس المرهق؟ ربما لأنها تعتقد أن المدينة غول كما كانت تقول دائماً، أو لعلها التجربة المرة في المدينة. لقد صنعت منها سنوات خازمة المتراكمة كرماً مزداناً بالعناقيد ، وبيدراً يغص بأكداس القمح والشعير لكنها عجزت أن تصنع منها دكاناً يبيع العنب والقمح فهي تقول دائماً : الحياة بالسويداء مرة.. كلها شقاء وعذاب.



- لم يكن أمام فارس إلا العودة إلى خازمة عاد يحمل هماً في المسلمية وآخر في خازمة ، فالهموم هي قدره منذ أن حملته أمه إلى "السويداء" ذات خريف ، وسوف يحمله معه إلى الجيش.

جاء ليودع خازمة فقط لأنه يرى نفسه مشنوقاً على كل جدار فيها.

لقد فتح عمرون ، وفتح المسلمية لكنه لم يستطع أن يفتح ذلك الحصن المسوج بالمواسم الرديئة ، والزنود المهاجرة ، والقروض المستحقة ، والمنسوج من فرحة المسافرين بالعودة ، وبكائهم ساعة الرحيل ، ومن ابتسام المقترضين ساعة استلام القرض من المصرف الزراعي وتجهم ساعة الاستحقاق .

عودة