-ولضيق زنزانته وفراغها، رحت أقطع الوقت: مرة، بانتظار تكبير المؤذن، في الجامع قرب المعتقل، مرات خمساً. ومرة بترقب نداءات بائع البوظة، الذي يصادف مجيئه بعد وجبة الغداء تماماً. ومرة، بالتنصت على مشاجرات النسوة من السكان المجاورين، التي كانت تصلني، غامضة، كل مساء.

وبلعبتي هذه، التي ابتكرتها حاجتي المفتقدة للآخرين، صرت ألهو، مبعداً عني وحدتي التي أضنتني بخفافيش الوساوس والأوهام.



-هذا خطها! خطها لامحالة. ليس حلماً أبداً. من انحناءات الأحرف، وانكسار الألف، وتعرج النون.. عرفته! من رفع "الأب" الذي طالما شاكستها – في رسائلها القديمة إليّ – على ضرورة جره.. عرفت خطها! كانت هي، وقد توزعت على أحرف، ودخلت قبوي!

بغتة اكفهر وجهي بعد قراءة جملتها. طفا الغم وأغرق الفرج: كيف أنفقها؟! تبخرت رائحة العرق، فجأة، فلم أعد أشمها. وانجلى النتن، فلا أحس به. تلون القبو بالفرح: ليست خمسين ليرة لبضعة سراويل، هي خمسون جدولاً لقلبي.. فكيف أهدرها؟!



-ثقل جفناها، ولم يطبقا! طمرت وجهها تتوسل نوماً.. فمدت شجرة الكينا أغصانها من شباك مخيلتها، فتعلقت بها وهبطت.. رأت مجيداً يخرج من جذعها كأنما ولد للتو، فضمته ومرغت وجهها في صدره.. وبكت. غمرها، فغابت بين يديه. تغلغلت فيه تشم رائحة الصنوبر العابقة منه فاتسع بحور آممداء زرقاء مطرزة بحبيبات الشمس الحانية.. مضت به ومضى معها بصحبة شمس تأفل خلف أفق بعيد كان واضحاً ثم راح يتلاشى شيئاً فشيئاً، في أحضان الظلمة...



-وعلى غير عادتها، كفت عن السؤال، هذه المرة، وراحت أصابعها الفستقية تنزلق في جوف الجوربين، دون أن أموء لها، أو تبكي أمامي.

حتى حذاؤها كان يعجزني ويسلبني احتمالي! فكم تطاير من قدمها الرشيقة المتمردة، فلا أتمكن من إدخال شريطه الجلدي في حلقته المعدنية قبل أن أعنفها وأحكم الإمساك بساقها جيداً. أما هذه المرة، فقد انسلت قدمها في الحذاء باسترخاء وليونة دون تعنيف، وتجاورت مع الأخرى في ازدواج محبب، افتقدت تأمله منذ زمن طويل.

فقط.. حين رفعتها وضممتها إلى صدري، مسدلاً رأسها على كتفي ويديها حول عنقي المتصبب عرقاً، انتبهت فجأة، إلى أني لم أحذرها – كما كنت أفعل دوماً – من إلصاق حذائيها ببنطالي، لأنها هذه المرة، كانت ميتة.

عودة