ـ كان الدير وكان الرهبان قبل مجئ "يعقوب" وبناته إلى المنطقة كما كانوا حين جاء الرجل وبناته، وقد سمع الرهبان بأخبار "يعقوب" وبناته كلها من الناس الذين زاروهم في قرية الشماصنة والقرى القريبة منها، وقالوا جملة واحدة ظلت في نفوس الآخرين ترن مثل الجرس : الرجل تاجر

وأضافوا شارحين لمن استوضحهم بأن الباحث عن المال يصاب بالحمى وإن أعيته الحيلة، وعجز عن الوصول إلى المال لايتوانى عن بيع أي شيئ حتى ولو كان كرامته.



_ حين أطلت النظر إليهن ، وأنا بين مصدق وغير مصدق لما أراه ، حلبت ريقي مرات عدة واستنجدت بصوتي لأبعث الطمأنينة في نفسي .. سألتهن كيف دخلن إلى بيتي ، وماذا يفعلن ؟ ولماذا هن صامتات وقد اسيقظت؟! وأجبنني دونما تمهل بأنهن مخولات بالدخول إلى أي مكان وفي أي وقت كان، فهن ربات القبور. ينسجن خيوط الحياة لبني البشر فتدوم اعمارهم ، ويقطعنها فيطويهم الموت .

وأن ماأراه بين أيديهن من خيوط ليس إلا أعمار البشر ، بعضها يطول ، وبعضها الآخر يقصر،وبعضها يبدأ، وبعضها الآخر ينتهي ، وهكذا‼



ـ وعلى الرغم من البكاء الحزين الذي يدمي القلب، الذي ولده يعقوب أمام بناته، لم تلتفت أي واحدة منهن لمواساته، أو سؤاله عن سبب بكائه.

وكان كل مافعلنه أنهن هدان قليلاً، ورحن يختلسن النظر إليه بين لحظة وأخرى ، ذلك لأنهن اعتدن بكاءه كلما أراد تحقيق غاية في نفسه ، وحين اختلط بكاء يعقوب مع بكاء بناته ، وازداد حزنه وندبه للأيام التي تدير له ظهرها دائماً ، ترك سليمان عطارة مكانه وقام إليهم.



ـ راح يدقق في الأشجار من حوله فرآها أشجاراً من الدلب والسنديان ، لاكما رآها حين جاء إلى هنا مجموعة من شجيرات الزعرور ، بل راعه أنه لم ير مساحات عشب النجيل التي كانت ممدودة أمام الكوخ ، لم ير سوى أرض متربة تغطيها بعض النباتات اليابسة ، وأوراق الأشجار التي اصفرت فتساقطت ، بل لم ير الصخور ولا المصطبة الحجرية المرتفعة التي رآها تحيط بباب الكوخ من الجانبين.



ـ مرات ومرات ، كان يعيد النسوة اللواتي يأتين بصحبة الرجال، يقول لهن لقد فسد الدرب بخطوات الرجال. وكن يعاودن المجيء وحيدات مثل الطيور الشاردة، وفي خانه يتجمعن واحدة بعد واحدة فوق فراش يعقوب الوضيع، وفي غرفته الخاصة.

لقد اعتادت النسوة طبعه ، وتصرفاته، وأحاديثه ، ولمساته ، ودموعه ، وأحزانه.

وكان المهم عندهن .. الأولاد أولاً ، هؤلاء الذين يسميهم الحكيم يعقوب ب "الأكرار" ، ومحبة الأزواج ثانياً.

عودة