- يدرك للمرة الولى، أن هناك ما يحرك الإنسان على الفعل، غير طاقته الذهنية.. لغة أخرى تعبّر عن حاجات اخرى، غير حاجات القلب والعقل.. تترابط في تسلسل حركي يقود الإنسان إلى نتائج قد ينكرها العقل، بالغم من حتميتها الواضحة، ونهاياتها السعيدة في تلبية إرواء عطش الجسد..

لم يتساءل عما نشأ بينه وبين "هيلانة" من رباط.. ماذا كانت بالنسبة إليه؟.. حلم قديم يعاوده على الدوام.. تحقق فجأة في حياته.. ثم تبعثر واختفى.. لايعرف كيف.. ولا يدري ما إذا كان سيتبدى من جديد..

لم يدر إلا واشعة الشمس تسقط على سريره.. ومضات عابرة تجد طريقها إلى غرفته عبر سحابات سريعة، بدت لعينيه الناعستين كأنها تنزلق على نافذة غرفته.. تذكره بنار موقده الخامد.. وبما ينتظره من صقيع إذا ما قام لإيقاده..



- لا شك أنها نسيت الكثير من مغامراتها الشائكة.. وها هي الآن تعي أنها قد تناست الجزء الأكبر من تلك المغامرات التي كان لها في الماضي علاقة بالهدايا والمال.. تتناساها، تُقصيها بصورة لا إرادية عن ذاكرتها.. تكره الاعتراف لنفسها بأنها قد تقاضت مالاً لقاء ليلة هنا.. وأخرى هناك! أو أنها قد ألفت تماماً وضع جميع مثل تلك التصرفات في دفتر للحسابات، مخالف لذلك الذي تعترف بوجوده! تبتكر العديد من المبررات للتهرب مما ينعت الناس به عملها.. تلجأ إلى ما لا حصر له من التفاسير، والأسباب المبررة أوالمخففة لمسلكها.. تقوم بكل ذلك ضمن إطار رافض أو كاره.. أوغاضب!، لكنها، أبداً، لم تعرف الخجل.. أو الندم الذي اعتراها في تلك اللحظة.. وهي على مقعد في غرفة عدنان.. تنصت للسكون.. تسمع صوت النار.. تنتظر قدوم عشيق الليلة أو الليلتين..لا تفهم أثره الغريب على حياتها!.. تنقل ناظريها بين أشياء غرفته.. تكاد تشمّ عبقها عن بعد، واحدة..واحدة.. يطير خيالها إلى صورة جسده.. تتلهف من جديد لملامسة منكبيه وصدره.. وبطنه الملس المشدود.. بل وقدميه المتينتين! تحس أن لنظافة وبساطة المكان أثراً مسيطراً، كاشفاً، عن ماضيها.. وأن لشباب "عدنان"، وهجاً مدمراً، نال من حيلها، وأثر في أساليب مواربتها لنفسها.. وقد تمكّن من كل ذلك في صمت وتصميم.. إنه إعصار جارف عصف بسنيها الأربع والثلاثين!! نعم.. الأربع والثلاثين.. التي جهدت طويلاً حتى كادت تنجح في تناسيها!!



- لم يكن مشهد الدمار وأشلاء القتلى التي تبعثرت هنا وهناك، أقل هولاً مما رأت منذ حين!!

طالعتها الأبنية المتهدمة على طول الطريق المؤدية إلى بيت أمها.. جثث بعض أصحابها ما زالت داخل الجدران المتصدعة.. أو تحت الركام.. تسمع من حين إلى آخر أصوات استغاثات خافتة، كأنها تخرج من بين الأنقاض.. وبالرغم من أن تلك جميعها بدت لهيلانة في تلك الساعة صوراً مروعة لأشد درجات القسوة والرعب، إلا أنها لم تهوي في سلم الجريمة البشعة إلى درك ما شاهدته منذ لحظات.. وتركته تحت أقدام تمثال العذراء!! كيف لا والفارق كبير بين ما يسفرعنه من قتل نتيجة إطلاق قذائف عن بعد وبين ذبح إنسان بسكّّين.. ثم تعمد قطع أعضائه التناسلية وحشرها في فمه.. ثم دق ذلك الوتد المريع في شرج الضحية المحتضرة!!

وقفت على مسافة من الحي الذي تقصده لا تقوى على الحركة.. تبحث عن منزل والدتها.. منزلها!! فلم تتبين منه إلا بقايا جدرانه.. ثقبت فيه القذائف كوات كبيرة سوداء.. أفواه فاغرة.. لشياطين لا عيون لها.. أوعيون سوداء جاحظة لتلك الشياطين.. حدقات سوداء هائلة.. تخرج من الظلام.. تحملق في الظلام.. لا ترى إلا الخراب والقتل.. ولا يرى الناظر إليها إلا صورة دماره وموته المترقب!!



- أنهى "عدنان" مهمته هانئ النفس، تعباً.. وخرج يبحث عن مطعم يتناول فيه عشاءه.. قادته قدماه إلى مكان تعود التردد إليه، أثناء الدراسة.. يعجب لرحلة الحياة.. لا تنفك دربها تعيده إلى الأماكن ذاتها!.. ماذا تبدل من معالم المطعم؟.. لقد شاخ.. هرمت جدرانه.. وموائده.. ومقاعده.. تبدلت وجوه العاملين فيه.. بعضهم مازال في مكانه.. وجوههم تجعدت.. خطواتهم.. تثاقلت..ترى هل نابه هو ما نابهم من التبدل؟..صحيح أن "هيلانة" تقول عكس ذلك.. لكنه لا يشعر بأنه الفتى نفسه الذي كان.. إنه اليوم رجل.. يحمل أحلام ذلك الفتى!.. هل ستلازمه أحلامه وآماله.. ترافقه حتى كهولته؟.. هل ستبدله الأيام.. ويأتي اليوم الذي لن ينظر فيه إلى الأشياء إلا من خلال ربحه ومنفعته.. هو الآخر؟

لاشك أن بعضهم قد شكّ في سلامة عقله! كيف يرفض إنسان في مثل حاله المتواضعة أمثال تلك الفرصة النادرة للثراء العاجل؟! وجميع النصائح التي تلقاها مأمونة الجانب.. يشترك في الربح جميع من معه.. يشركهم في المصير ذاته.. فلا خوف هنالك من وشاية أحد!!

لن يفهم أحد أنه لم يرفض الرشوة خوفاً من "افتضاح أمره".. أو تحسباً من تقريع الضمير.. لقد رفضها.. لعدم قدرته على تقبلها! تماماً لأنه لا قدرة له على قتل طفل.. أودهس إنسان.. أو المرور بعجلات سيارة على هرة تسعى!

عودة