- يتجه صوب النهر، ويقف على حافة جرفه العالي… يفرغ ألمه وقهره بقذف الحجارة إلى الماء. ولولا أنه يجيد السباحة. لقلت يريد أن يرمي بنفسه في الماء وينتهي.. ربما كان يبكي فطالما رأيت عينيه في الصباح حمراوين منتفختين.. ولا يعود إلا عندما تدبّ في القرية حركة الرعاة والدواب والطيور،، بينما تقف هي على باب غرفتها ترفع يديها إلى السماء وتدمدم..

الملعونة… لا شك أنها تدعو عليه وترجو الله أن يخلّصها من محنتها التي ابتلاها بها. وقد بتّ أخشى أن يصاب بمكروه أو يبتلى بمرض لا براء منه.. فأبواب السماء في الفجر مفتوحة والدعاء فيه لا يخيب..



- يضيق الطريق أمامهما.. طريق للجوع والعطش، للضياع والتشرّد، ودرب لانكسارات وهزائم معلنة وغير معلنة، قاده يوماً إلى بلاد التيه والغربة، عندما طاردته الكلاب والبنادق والوجوه الغريبة التي تقطر حقداً وكراهية.

بتثاقل يجرّ قدميه الواهنتين.. ماعاد يحسّ بوخز الأشواك بعد أن تسلّل الخدر إليهما. لقد قرر أن يخترق كل الحصارات قبل أن يخفق القلب خفقته الأخيرة.

نظر إلى السماء.. ثمّة طيور جارحة تحلّق فوقهما. راقبها مرّة بعد مرة. كانت تلحق بهما وترسم حولهما دوائر للمأساة وأخرى لسقوط الجسد المتعب..

يدرك أنه يغامر بحياته أو بما تبقى لـه من رحلة العمر الذي ضاع، ويرمي بنفسه للردى. كل هذا لم يعد يعني له شيئاً وفي القلب مازالت بقية من نبض، وفي الأفق البعيد بارقة أمل تومض كألق اللحظة الأخيرة وفي النفس سؤال يلح باستمرار: هل تنتهي رحلة الغربة والتشرّد؟! وهل يغمض عينيه على صورة من يحبهم قبل أن ينطفئ نورهما؟!

- هي رحلتنا الأخيرة، هربنا من الخوف والخطر، بحثنا عن الأمّان في كل مكان، قصدنا القريب ووقفنا بباب الغريب فماذا جنينا؟! غريبين كنا، غريبين صرنا، تقاذفتنا الجهات وشرّدتنا الدروب، قتلتنا الغربة وذوّبنا الحنين، وهانحن نعود مهدودين بعد طول انتظار، لا بديل عن العودة، وأمي كانت تقول: من مات في غير بيته مات ميتة الغرباء.

- كلما مرّ من هنا يدفعه الفضول للتمهل ومراقبة المكان عن كثب، وتقوده الرغبة لولوجه ورؤيته من الداخل، والتعرف على عالم محظور عليه وعلى أمثاله من المواطنين، فهو مسيج بالأسلاك الشائكة المكهربة والكتل الإسمنتية التي تحول دون اقتحام الآليات، وإشارات التنبيه والتحذير بلغتين إحداهما العربية: ممنوع الاقتراب.. ممنوع الدخول، ممنوع التصوير.. وعلى بابه وسياجه حرّاس غرباء، ذوي بشرات شقراء وعيون زرقاء. يحملون البنادق الآلية وأجهزة اللاسلكي.

عودة