- أهي السكرة كانت ذهبت يا أمي، وجاءت الفكرة؟ أم هو الفرح الذي أعمى بصرك، وباصرتك؟ إن أخي لم يكن أخي يا أمي.. أخي كان ممشوقاً، باسماً، شاباً، ممتلئاً، وكان شعره مسترسلاً، يغني وقت الغناء، ويرقص وقت الرقص، ويدبك وقت الدبكة، ويحكي إذا حضر الحديث.. أما الشخص الذي جاءنا البارحة، فقد كان ضئيلاً، هرماً، محني الظهر، على رأسه بضع شعرات بيض، لم يعبأ برقصك، ولا بدربكة خالتي، أو بغناء صالح، أو بفرح الناس من حوله بعودته.. كان ساهماً طوال الوقت، ينظر إلى لا شيء، لم ينطق بكلمة واحدة منذ وصوله.. حتى من الأحاسيس لم يكن عنده شيء.. فلو كان عنده شيء منها، لوجدنا لقبلاته حرارة.. لحضنه دفئاً.. لبقي معي هنا، عند قبرك، ولو لدقائق، بعد انتهائنا من مراسم دفنك..



-استدرت من مكاني على الشرفة نحو باب الشاليه.. هاهو الطاهر ما زال يصلي.. استغربت.. أتأخذ الصلاة منه كل هذا الوقت؟! ثم إني لم أره يركع، أو يسجد.. أيكون قد نسي نفسه، وشرد، وهو يصلي، من حالة الوقوف وحدها؟ توجهت إليه على رؤوس أصابع قدمي.. اقتربت منه من الخلف.. يبّسني المنظر الذي رأيته في مكاني... امرأة بديعة تستحم، بكامل عريها، في الشاليه المجاورة، أمام عيني الطاهر.. كأنها نسيت نافذة الحمام مفتوحة، أو تعمدت أن تتركها.. والله أعلم..



- وشرعت تخلع ثيابها بأريحية، كأنها تتعرى في غرفة نومها، وفي حضرة رجل سبق وأن تعرت أمامه ألف مرة..

انكسر شيء ثالث في داخلي، وتحولت على الكرسي إلى ما يشبه الحجرة الصماء..

ـ استعجل.. لن أتأخر عن الأولاد..

ولم أتحرك.. وهل تتحرك حجرة صماء ملقاة في الطريق من تلقاء نفسها؟

ـ ما بك يا عبد؟ هل أنت مريض؟

حاولت أن أنطق بشيء، فاكتشفت أن لساني قد التصق بسقف حلقي..

اقتربت مني، أخرجت رأسي من بين ركبتي، وأخذت قبلة من شفتي المتجلدتين..

ـ هل هذه هي اللحظة التي تنتظرها منذ ثلاث سنين؟

ذهبت إلى السرير، وحاولت أن تثيرني بحركات الأنثى الخبيرة، دون جدوى.

ـ أنت مريض..

صاحت في وجهي، وأخذت ترتدي ثيابها على عجل، وأضافت، بعصبية، قبل أن تخرج من الشقة راكضة، طارقة الأبواب وراءها: أنصحك أن تعرض نفسك على طبيب..

وأنا، طبعاً، لن أعمل بنصيحتها.. لقد شخصت لنفسي وانتهى الأمر.. وهل للخيبة دواء؟

-ثم يجيء دور المسابح.. وهل يجوز الحج دون مسابح؟ هذه المسبحة التي بين يديه "حجاجية" هدية من جاره أبي خليل، الذي قصد الديار المقدسة في العام الماضي.. أصلاً الناس لا يصدقون إذا قيل لهم إن فلاناً قد سافر إلى الحج، ورجع، دون أن يجلب معه خُرْجَ مسابح، ودمعة من ماء زمزم.. وإن سولت لأحد ما نفسه، وفعلها، يصير بنظرهم كأنه لا راح، ولا رجع، ولن يسلم من ألسنتهم طوال حياته.. وقد يورّث العار لأولاده وأحفاده بعد موته..

- لكن ماذا سيقول عنه الناس إذا بطّل ابنته من المدرسة؟ ماذا سيقول الأهل والجيران؟ ماذا ستقول زوجته وأولاده؟ أيعلمهم بما جرى بعد أن يعقد مجلساً عائلياً، ثم يشرع بمحاكمة البنت، من خلال جلسة علنية، بعد تقسيم أفراد العائلة إلى شهود، ومحلّفين، وقضاة؟

الأشياء كلها، التي فكر القيام بها، كانت تحطّ من قيمته.. من هيبته.. من قَدْره.. لنتصور ماذا سيجري له، ولزوجته، ولأولاده، فيما لو تداول الناس فيما بينهم مثل هذا الحديث: عبد الصبور؛ مربي الأجيال، اكتشف أن ابنته تحبّ ابن الجيران، وتلتقي به ليلاً، فبطلها من المدرسة؟.

عودة