الصورة غير متوفرة

- ونظر صالح الوالبي إلى الأعلى، نظر إلى السماء ثم امتد بصره إلى الأفق حيث كانت الشمس تقترب من الجبل لتغيب وراءه، وقال لنفسه: "على الرغم من كل شيء فإن الفضاء على اتساعه سجن كبير. والمصيبة أننا لا نعرف أننا مسجونون. إننا لا نتغلب على الأرض، وإنما نطلب مكاناً منها لأجسادنا وأقدامنا. لا نتغلب على الجبل وإنما على صورته في عيوننا. إننا مخدوعون ومخادعون، فما أتفه الإنسان وما أعظمه في ذات الوقت إذا أراد أن يكون عظيماً".



- كان معجباً ب"المهاتما غاندي".. وإعجابه هذا، ربما كان مرده إلى سياسة "اللاعنف" التي نادى بها غاندي. ولكنه عندما يتأمل الأشياء والأحداث التي تجري حوله، فإنه يفضِّل الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي صار قائداً في مرحلة من مراحل التاريخ العربي.. فأي طريقة عليه أن يسلكها؟



- لقد أشرقت الشمس، أشرقت التلال التي تحيط بالمنخورة، فهل تبقى مشرقة مع شروق الشمس وتغيب مع مغيبها؟ لمن يبث أفراحه، ولمن يهمس بأحزانه ولواعج روحه؟ لمن يمكن أن تستكين نفسه، ولمن يبثُّ طموحاته وآماله؟.. وربما كان الأهم: هل يمكن لكل ذلك أن تأتي عليه رياح مفاجئة فتقتلعه من جذوره؟ إنه يعيش حالة قلق من الناس؛ يعيش حالة قلق مع المنديل الذي أهدته إياه منيرة، مثلما يعيش حالة القلق مع حفنة تراب من أرض المنخورة، يحتفظ بها دائماً في منديلها، وكم تساءل دون أن يصل إلى إجابة مقنعة: ما معنى الاحتفاظ بحفنة التراب الصغيرة في منديل منيرة؟



- راح يبحث في دفاتر دماغه ومما تعلمه من كتب التاريخ في أسباب هذه الاستكانة التي ركن إليها أهل المنخورة. إنه في حيرة مما كان يجري أمامه كأنما هناك غيمة سوداء قد احتوته. توقف ليبحث بين ركامات أبجدية الدهشة عن غيوم لا تجود بالمطر وعن شريحة من الناس لاذوا بمكاسبهم الفردية فاستكانوا وأغمضوا عيونهم وسدّوا آذانهم، فهم لا يرون ولا يسمعون.



- أتساءل: ما الفرق بين الناس في المنخورة وقطيع الأغنام الذي يبحث عن العشب فلا يجد غير الأشواك؟

أتلفّت إلى المنخورة عبر المقبرة. أحسّ جفافاً في حلقي. ابتلع غصّتي وأحاول أن أنتشل روحي من وهاد الحزن وقاع الأنين.. لكن الراعي، زاد في حزني حزناً، وفي أذنيَّ طنيناً عندما راح يعزف بالناي ألحاناً شجية. صرت أتخيل أصابعه وهي تتنقل بين ثقوب الناي فكأنها لا تلامس مسام الجلد، بل إنها تضغط على منافذ الروح. أحسّ اختناقاً في وحدتي، لكن دموعي لم تطاوعني، ظلت مستعصية في الأغوار البعيدة للنفس.



- بعد سنوات يا منيرة استوعبت تماماً ماذا يعني أن يكون الصمت بشعاً. ليس صمت الفم بشعاً لكن صمت الروح هو البشع، هذا التيار المزدوج من الدم, الذي يجري في عروقي, لا يهدأ لحظة واحدة, دم أبي الهادئ والعنيد, ودم أمي الانفعالي التي تريد كل شيء طوع بنانها. دم أبي منحني التأمل والتوقع وأن لا أفقد الصبر، ودم أمي كان يحثني دائماً لأُغيّر ما يحيط بي من أشياء, لكنني لم أكن انتظر من العالم ليكون طوع بناني.

أتوق الى عالم خال من الظلم والقتل والغبن والكذب والادعاء , ولهذا فإنني أتساءل, وأنا في هذه البرية: كيف يمكن للمنخورة أن تقطع أنشوطة القتل وحبل الظلم؟ كيف يمكن لهؤلاء البشر أن يخجلوا من الكذب والادعاء؟ هل يكفُّ البشر عن عجزهم بالقتل والظلم ويقتلون المظلوم باسم العدل؟



- غالب الوالبي ليس وحده الذي يعرف ذلك عن قاسم المدهون، لكنه يتساءل: في عصر الرعب والهراوات والبصاصين، كيف يمكن لـه أن يلتقي بأولئك الذين يحرّفون الحقيقة؟ وحتى إذا عرفوها، فهل بإمكانهم أن يهمسوا بما يعتمل داخل نفوسهم؟

يراقب كل شيء ويسمع كثيراً من الأشياء، دون أن تفصح الألسنة عن أوجاع أصحابها. يحس بالقهر يتأرجح بين الحناجر والألسنة، فلا تعبّر الحناجر عن قهرها إلاّ بالصعود والهبوط في الأعناق، ولا تعبّر الألسنة عن شيء إلا أن أصحابها يضغطون عليها بأسنانهم.

عودة