الصورة غير متوفرة

ـ فالتفت الجميع إلى حيث أشارت، فوجدوا لافتةً عريضةً فوق مدخلٍ جانبيّ لبيت عربيّ مفتوح كُتب عليها بالخطّ الفارسي: "مطبعة ابن زيدون". وإلى الأعلى كان ثمّة غرفة كبيرة تحتلّ الزاوية الشرقية من الطابق العلوي صُنعت كلّ جدرانها من الخشب المعشّق المحفور، وكان واضحاً بالرغم من تآكل بعض جوانبها أنها غرفة بُنيت بعناية خاصّة إذ كان في كلّ سنتيمتر مرّبع من تلك الجدران بقايا حفر على خشب حائل اللون حقّاً ولكنّه آية في الإتقان. وعندما هبطت عيونهم عنها تبيّنوا أن المدخل الرئيسي للمنزل كان يقع تحت هذه الغرفة تماماً إذ كان يتألّف من باب شامخ عريض من الخشب الثمين قد جلَلّه الغبار وزّينت مصراعيه مطرقتان ضخمتان توأمان من النحاس، ودعّمت جانبيه حجارة ضخمة منحوتة شبيهة بحجارة الأبنية الرومانيّة.

وقف الجميع معلٌّقةً أبصارهم بالمشهد الجليل يُصغون إلى فاطمة التي كانت تقول:

- هذا هو منزل فخري البارودي... لابدّ أنكم سمعتم باسم هذا الزعيم الوطني المشهور..



ـ هذا حذاء إيطالي رقيق يصلح للصيف والنزهات لا لخوض الشتاء في بلاد الثلج والمطر والبرد.. لا... هذا فظيع.. لقد أشترينا له أحذية متخصّصة ذات نعل من "الكريم" السميك لمثل هذه الأسفار.. فأين هي؟!.. كيف لم يفكّروا بها حين رتّبوا الحقائب!.. أبمثل هذا الحذاء يمكن لجلالته أن يدوس على صقيع تلك الأرض!.. كيف أنّهم لم يقدّروا أهميّة الأحذية في الدوس على الأرض الباردة هناك!.. إنهم يقامرون بصحّة ملكهم بكلّ صفاقة وجهل... إنّ للأحذية أهميّة كبرى في حفظ القدمين، وبالتالي حفظ الجسم كلّه من تسرّب البرد القاتل.. ياإلهي.. حتى الأحذية ينسونها.. حتى الأحذية لا يفكّرون فيها..

ـ لم يَعُدْ الموظفون إلى عملهم فور انتهاء المشهد، كان ثمّة ظلام غير معقول يسدّ للنوافذ، ويجمّد المكاتب والأروقة، ويكمّ الأفواه ويعصر القلوب، لقد جلس الآن كلٌّ وراء مكتبه، وانتهى الحوار. وحين تلاقت أعين المتراهنين الثلاثة، أشاح كلّ بوجهه عن الآخر دون كلام.

أما الرهان فلم يفتحوا سيرته لا في ذلك اليوم ولا في الأيام التي تلت. لقد كانوا يسقطون مثل "أبو فاضل" مع فارق واحد هو أن سقوطهم كان في فضاء لا قرار له، وأن الصرخات البشرية المذعورة لم تكنْ تنقطع لحظةً واحدة...

ـ أما حفلات التعذيب المبرمجة فلم يكن في استطاعته أن ينقذنا منها بالطبع إلاّ أنه كان يحذّرنا قبل وقوعها أحياناً أو يحمل إلينا بعض الأخبار المفيدة عن المعتقلين الآخرين وعن الدنيا في الخارج، أو يُشرف نفسه على الزيارة التي يقوم بها لنا أهلنا من حين لآخر كي يسهّل علينا التفاهم، وقد يتطوّع لشراء المواد التموينية وتهريب الدخان، غير أن أهم خدمةٍ قدّمها لي بالتأكيد كانت هي تهريبه لي دفتراً صغيراً مع قلم رصاص صغير مع أنّ ذلك كان وقتها من أهم الممنوعات.

كنا نعرف أنه يُغامر، وأنّهم لو شكّوا بتعاونه معنا إذن لعاقبوه، شرّ عقاب،

عودة