ـ التاريخ أشبه باكذوبة على الطلاب أن يصدقوها، يدرسون عظمة أمتهم ويلمسون تفاهتها، يعيشون على الأمجاد الغابرة، وأمجاد اللحظة تتلاشى، فالقاموس عجز عن ضمها بين دفتيه. ما فائدة قولنا الحضارة ابتدأت من هنا، والتاريخ كتبنا أبجديته، أعطيناها للعالم، هنا أم الحضارات. نظرة واحدة من مدرس التاريخ تشعرك أن المعادلة مقلوبة، نرفع شعارات ونطلب تحيقها فوراً، بعضهم يعتقد أنها تحققت بمجرد رفعها، قلائل يدركون أنها الطريق إلى السلطة. يناضلون لتحقيقها فلا يحصدون سوى الهواء، إن تحقيق الشعارات أشبه بحراثة البحر. الوحدة ليست اجتماع زعيمين يوقعان عليها فتصير نافذة، الوحدة نتيجة وليست مقدمة .



ـ ضحكا وبدأت كلمات العشق تتدفق كمياه بردى ومواعيد الغرام تأخذ طريقها، وجلسات السمر في الربوة والغوطة ومشاوير الدروب ومذاق الكرز الذي أنساه همومه الصغيرة، قال فيها أحلى الكلام .

يا بردى لا تثرثر، لا تتطاول، لن تخاصر جسدها

فما بين مياهك وقدميها عناق .

قال عن شفتيها بأنهما ثمرتا عناب وعن عينيها الحزينتين بأنهما بوابة " مندلبوم " في القدس، هذه البوابة التي يقف خلفها الأحباب أو الأهل عندما يكون أحدهما داخل فلسطين المحتلة وبقية أهله خارجها .

بعد سنوات العشق، عندما تحول الحب إلى ماض، يوم أنهى دراسته الجامعية في دمشق، قرر أن لا يكرر التجربة وأن تبقى ابنة الرغوة الوردة الوحيدة في قلبه التي تهب الشرايين والأوردة الأكسجين لتنقي الدم أثناء دورته العادية، شمعة تضيء الدرب المعتمة، المحبوبة التي لن تجرؤ أي فتاة أن تأخذ مكانها. لكنه لم يكن صادقاً، العواطف تنتشر دون استئذان وكذلك القلوب، فكما وقع في حب، الشامية البيضاء، استهوته عبلة ابنة التنظيم. فشعر بعد سنوات من عمله أن قلبه يدق فجأة وعلى حين غرة الشرايين والأوردة الأكسجين لتنقي الدم أثناء دورته العادية، شمعة تضيء الدروب المعتمة، المحبوبة التي كما دق في دمشق، خاف قرع الطبول في داخله، صوت دقاته تجاوزت رصيف المشاة ليسمعها عابر السبيل. وكما حاول مع وصال سد نوافذ العشق، حاول ثانية، لكن محاولته هذه المرة جاءت متأخرة، إذ لم يصح إلا بعد أن تسلل الحب إلى كل قطرة دم في جسده



ـ لا شيء هنا يجري كما نريد، الأحلام الغضة التي قفزت إلى ذاكرتي يوم كنت في دمشق تبخرت. المسافة التي كنت سأقطعها مشياً، عليّ أن أهرول الآن لألحق بالزمن، فقد سبقنا. لا شك أن الحلم ترعرع في ضلوعنا حتى استطاع أن يجد مساماً وصل عبره إلى الفؤاد.

هل أبوح بالحب الذي لم يجد واقعاً يحتضنه، حبنا يابنة الرغوة أكبر من المكان الذي نحن فيه، لقد دمر " الاسرائيليون " كبرياءنا ورجولتنا، هل تعرفين ما معنى أن ينتصروا ونهزم !

أنتِ تعيدينني إلى الحياة الرائعة التي عشناها، لاشيء بقي كما هو، لقد أفقدنا العدو المرح. انظري إلى الأماكن التي ذهبنا إليها، أمازالت الغوطة نضرة؟ وقاسيون شامخاً؟ الربوة عابقة بالحياة والألفة؟ وأبو رمانه رسول الحب والحميدية سوقه؟ افحصي كل الأمكنة ودققي النظر في جمالها ستجدي كل شيء قد تغيّر .



ـ بعد ربع ساعة سمع صوت طائرة مروحية تقترب من السجن ثم غير بعيدة عنه، ترجل موشي ديان، تقدم مدير السجن أدة التحية وسلم عليه، ثم قاده إلى مكتبه .ومن هناك توجهها إلى حيث طلب، إلى الأسير الذي أسمه عمر القاسم، الذي استغرب وجود عدد من المسؤولين حوله، فتح عينيه كالحلم، فرأى من يضع عصابة سوداء على إحدى عينيه، اغمضهما وغط في شبه غيبوبة، لكنه سمع بعض أطراف الحديث، وعرف أن وزير الدفاع هو الذي يغطي إحدى عينيه بعصابة، حاول أن يجلس في سريره، وبعد صعوبة تمكن من ذلك، عندها أمر وزير الدفاع مرافقيه بالخروج، قال: - " شالوم " سيد عمر ، أخبروني أنك تجيد لغات عدة غير لغتك، تحمل إجازة جامعية وعضو لجنة مركزية في " منظمة تخريبية " سامحك الله لقد جئت ونسفت تصريحي، منذ عشرة أيام قلت، إن المخربين المعتقلين عندنا أميون، مدفوعون للموت دون قناعة. مثقف مثلك عليه البحث عن عمل يناسبه في دولته إسرائيل .... أنت من القدس عاصمتنا، أنت مواطن لك حقوق علينا شريطة عودتك إلى الصواب، سنعالجك ونخيرك في البقاء معنا أو العودة للخارج بروح جديدة ومفاهيم عصرية .

بالتأكيد مقابل ذلك تعلن أسفك وندمك بتصريح صحفي على ما أقدمت عليه".



ـ تساءل عن الأحلام الوردية يوم ظن أنه قادر على تغيير العالم، وأنه بمظاهرة وهتافات وقليل من الرصاص قادر أيضاً على إثبات وجوده. سافرت تلك الأحلام. حتى الورود اختفت إلا من حنة عدن، جنة المسؤولين في السجن والزوار من القادة، ليعيشوا فيها لحظات تعكس حياة مخالفة لكل أشكال السجن والاعتقال. جاءته أحلام الواقع المعيش، الأحلام السوداوية، البارحة ناضلوا وأضربوا ومات منهم أثنان من أجل هدف بسيط، لو تحدث أحدهم به وهم في الأغوار لضحكوا، وقالوا أمن أجل الامتناع عن الطعام نفقد اثنين من أفضل الرفاق، بئس الإضراب!

عودة