الصورة غير متوفرة

ـ إننا عندما نقتل بعضنا بعضاً، بدون دماء وطعنات، ثم نموت ونتفسخ فإننا نحقق انتصارين في آن واحد، انتصاراً على الحكومة بمعنى أنها لم تعد قادرة على الزامنا بأية برامج وسياسات وممنوعات وضرائب ومدائح وإصغاءات للمناسبات والخطابات والأجهزة. إنها بكل صراحة أعني الحكومة ستكون بالنسبة لنا غير موجودة، وهذا الأمر كاف ليجعلها تحس بالندم على فقدان آذاننا.

التحدي الثاني نوجهه للزمن، فهو بدوره لن يكون موجوداً بما فيه الكفاية ليؤثر علينا.



ـ إنني بصراحة ورغم ما أتمتع به من سمعة أكاديمية عالية كنت في حالة استغراب شديد، عندما دخلت إلى الغرفة مبللاً بدموع زوجتي وشهقاتها، فالدموع لا تضعف صاحبها وإنما تضعف الكائن الذي يجاور صاحبها ويلمح بريقها وهي تنساب على ظاهر الوجه، وبخاصة إذا كان الوجه.. وجه زوجة وحيدة تَعْتَبِرُ البكاء عاطفة تخص دول العالم الثالث.



ـ ثم أن المرور في حديقة فارغة ليس أمراً سيئاً، لكنه يغري بالمخاوف، هل يخطر ببال الأشجار مثلاً أن تخطف فتاة وحيدة مثلي وتزرعها في الأرض لتزداد الخضرة في الحديقة، وهل كانت الأشجار فتيات وحيدات مثلي، تم اختطافهن بحسن نية وغرسهن. الحديقة الخاوية تغري بالتفكير والانتباه إلى ضربات الحذاء على الأرض الإسفلتية الخشنة، وهذا الإصغاء الشديد الذي أحاوله حتى أحس بالشاب الذي يتبعني ولأعرف هل يزداد اقتراباً أم ابتعاداً عني.



ـ عندما يقف الإنسان على السطح.. أي سطح ينتبه إلى السماء، خلافاً للذي يمشي على الأرض، فإنه ينتبه إلى الأرض، في السماء كانت النجوم تلتمع وكان القمر قريباً ومدوراً وشديد البياض.. سطح المنزل الواسع كان مثل السماء مملوءاً بالليل وبالأغطية البيضاء المنتشرة على حبال الغسيل في هيئة كرنفال وممرات وسراديب.



ـ ويا طفلي.. لا تحزن.. لا تحزن.. خذ كل حاجتك من الأمومة.. فما زلت رغم بطني فتاة طائشة ولها عينان مختلفتان مع الدنيا.. ولكن هذه الطائشة تحبك كأنما لم تشاهد في حياتها سواك، ويا طفلي.. لتنزل مني مكتملاً، ولتلتفت إليّ مَرَةً واحدة وبعدها فلتهرب بعيداً، فأنا لا أضمن لك طفولة ترضيك، ويا طفلي.. لو أنني أستطيع.. لمددت لك الإقامة في روحي ونبضي مئتين وأربعين شهراً حتى تخرج مني شاباً مكتملاً.



ـ ولأنك تبحث عن خاتمة بطولية... مملوءة بالضحايا والشعارات العظيمة ... ولأن العصر لم يعد يحتفي بشيء .. قوة التحليل والنظرات الصائبة صارت من الماضي، القوة التي تؤدي للوحدة البليغة، ذلك هو مصيرك،وها أنت وفي عزلتك وبكفين مثقوبتين، تبدأ الكتابة، بضمائر متعددة، مرة لك وأخرى للغائب الذي يتواري فيك. وبكفين مثقوبتين من شدة التذكر، تكاد تودي بروحك وطبيعتك، مطوحاً بالحالمين بمعتقداتهم وأحزانهم، ثم تعرّض كفيك للمسامير مثل أب وحيد وابن وحيد، لذلك .. تصغي عميقاً إلى حركة الأشياء، فربما هبت من النافذة المفتوحة أنسام من طرف الحديقة لتحرّك الثياب المعلقة لزوجتك الغائبة كاتيا، التي أخبرتك في الرسالة الأخيرة كم تحبك وتنتظر قدومك إلى موسكو لتعيدها إلى المرض، لأنها في غيابك ما عادت تحتمل الشفاء. فالبيروسترويكا، وغياب الدواء والأغذية، جعلاها تحن إليك وإلى لونك الأصفر ونظراتك الثاقبة،ولكنها لم تنتظر، لم تنتظر قدومك، لم تنتظر قدوم أحد... وماتت هناك،

عودة