-على امتداد الأيام والشهور والسنوات الأخيرة, حفظا الوجوه المقيمة, والوجوه العابرة في ذلك المقهى، وحصلا على امتياز الجلوس الطويل دون أن يلحَّ عليهما أحدٌ بطلب المزيد من المشروبات. كانا يأتيان معا، ويرحلان معا بالمواعيد ذاتها والجلبة ذاتها.

هذا المساء، وعلى غير العادة، قَدِما من اتجاهين مختلفين, دخلا المقهى، فانخفضتْ أصواتُ مرتاديه، جلسا متقابِلين دون أن ينظر أحدهما إلى الآخر! ظلا صامتَين ساهمين, زائغَي البصر, يرنو كل منهما إلى لا مكان، وطال جلوسهما على تلك الحالة الغريبة!

-كانت السهرة تمتد وتمتد .. وإبراهيم يشرب، يضحك، يصمت، يناقش، والمعلِّم يراقبه ابتداءً من حذائه، وانتهاءً به. يسمعُه فيشعر أن كلامه ثقيل فاقع سطحيٌّ كجوربه، وأن ضحكاته تأتي في غير محلِّها، وأن قفشاته سخيفة تفتقد الذكاء.

السهرة تمتد وتمتد، والمعلِّم يقلِّب الأمر في ذهنه: ربما كان إبراهيم لا يستحقُّ أن يحضر سهراتٍ غنيّةً وعميقة كهذه، أو أنه -من الأساس- لم يكن يستحق ذلك الحذاء!



-وفي أيام العشق من طرف واحد، كنت أقف على مفرق أسميتُه مفرق الدربين، وهو المكان الأكثر احتمالاً لمرورها، وأبدأ بعدِّ السيارات، وعدِّ العابرين، وعدِّ نجوم الظهر! وعدِّ الثواني والدقائق .. كان العدُّ يستمرُّ ويستمر وآمالي معلّقةً بحلم قد يأتي وقد لا يأتي!

مسألةُ العدِّ هذه كانت أحد أسراري الصغيرة التي لا يمكن أن أبوح بها لأحد. في الحقيقة كنت أشعر بالخجل وأنا أفكِّر في عادتي هذه! ماذا سيقال عني إذا انكشف أمري وتبيَّن للجميع كيف أفكِّر؟ وكيف أمضي وقتي؟ لكنني أعترف أنني وجدت فيها حلاً ناجعاً لكثير من الضغوط التي أتعرَّض لها!



-من البداية كان يبدو عليه أنه يعرف تماماً ما يجب فعله، لم تبدر منه أية أخطاء أو إرباكات، ولم يطرح أية أسئلة .. كان يعمل بصمت، يراقب، ويملأ تلك الجداول، وتلك النظرة الخامدة تلازم وجهه ..

لم يتبادل الحديث مع العابرين، لم يردَّ على تعليقاتهم المتنوِّعة، ولا حتى على تحياتهم .. وبدا كأنه قطعة دهرية من تلك البوابة، كأنه عامودها الحديدي العتيق، أو مزلاجها، أو قطعة من الجدار الحجري العالي الممتد إلى ما بعد النظر!

سنون طويلة مرّتْ وهو يعمل على تلك الصورة .. كان ينظر إلى القادِمِين من كلا الاتجاهين، يراقب ملامحهم وحركاتهم، ينصت لأصواتهم، ويشيعهم بنظره بعد أن يعبروا ..

نساء ورجال، أطفال وشيوخ كانوا يأتون دون انقطاع، ينتظرون إلى أن يحين دورهم، بعضهم يأتي في مجموعات، والبعض الآخر يجيء إفرادياً، يحملون متاعهم وينظرون للجهة المقابلة وفي عيونهم ترقُّب وفضول كبير ..



-نظر حوله؛ كانت عيون كثيرة تراقبه بصمت. فجأة لمح عيني أمه الدامعتين، عيون أخوته، أبيه، عيني زهرة، لاحظ في وجوههم، وعيونهم وقاماتهم شروخاً مثيرة! الحجارة الساقطة تزداد ووجهه يختفي ويظهر من خلال الغبار.. كان آخر ما سمعه الناسُ صراخَه المدوِّي:

- هييييه! أنتم! اتركوني، دعوني أساعدكم، ألا تلاحظون ؟ إنكم .. إنكم جميعاً بحاجة إلى ...؟

عودة