- إيماني بالحاسة السادسة لا يتطرق إليه الشك ، قلوبنا تحدثنا عن مصائب مترصدة بنا ، وتقع حتماً ، قرأت في كتب التصوف أن من تشف روحه يعانق الوجود ، ويذوب فيه ، يرتفع عن النظرة الدودية المحسوسة ويصبح مثل الباشق يحلق في الجو ، ويرى أدق الأشياء تتحرك تحته.



- وكان المعلم "نبيل السواحلي" يمشي مع مجموعة "أيوب السارح" و"غيلان الجعفي" ، مأخوذاً بتلك التألقات الصباحية التي يرسمها أبناء الريف وبناته فوق صفحة الوجود ، شاعراً بأن الطبيعة مهما قست ، والظروف الاجتماعية مهما استشرت ، فلن تميت في الأعماق كل ذلك النزوع الإنساني إلى الفرح والمتعة ، فالانصهار في القطيع يؤجج شعوراً بالأمن إزاء الذئاب المترصدة والكوارث المحيقة المنذرة .



- إنها هي التي تعرفها ، زحفت بعينيها إليَّ من خرائب الخريف ، تقمصت شبحاً يريد أن يلاشيني ، ويضغط على صدري ، إنه العالم الذي تجسد فيها بكل صنوف عذاباته ، وغواياته ، ماكنت أتخيل أنها قادرة برنوات حالمة تقدمها إلى مخيلتي ، أن تسحقني، تصيرني نبتة "سلبين" يابسة يخشخش فيها فراغ الموت والجنون ، نحن نجهل سحر الأشياء وفعاليتها مادامت حاضرة لدينا ، وحينما نشعر بإمكان بعدها عنا، تقفز في غيابها وتصبح أكثر حضوراً.



ـ وتبقى المحاولة مفتوحة على مستقبل تطلع بين ثناياه أجنة فيها قابلية للتغيير وتحطيم نير التابو والمحرمات ، ورفع التكفير ، عن أناس لا ذنب لهم لا أنهم قاوموا بشراسة الجراد الأصفر التركي الذي اقتطع الأرض وملكها لعناصره، وتمردوا على طغيان السلاطين ، وخوازيقهم ورفضوا شرائع الغاب التي تحل للقوي الغريب عن الديار أن يلتهم التراث الأصيل ، ويحيل السكان الحقيقيين إلى مسوخ، موصومين بالكفر والشر ، وأن يجمد التاريخ العربي في قوالب عصور الانحدار ، ويتمزق مزقاً تتردى في حمى المسكنة والذل والضياع.



ـ الجسد بعد رحيل الروح عنه ، يتفتت تراباً نخراً، والقبور التي يسكنها الجسد البالي هي شواخص ، تذكرنا بأناس مروا على نهر الحياة ، كم مرعب أن نجعل الموتى الذين لا حراك فيهم، يسممون حياتنا ، يقفزون أشباحاً على شاشة مخيلاتنا ، زمن الجن قد مضى في ظلام التاريخ ، فلا تحركوا المستنقع الراكد الذي أرعب نوعنا البشري ، وصلبه على فزاعات الدروب. كم قرأت من الكتب وبلوت من التجارب لأصل إلى برزخ الحياة والموت ، والجسد والروح وقديماً سمعت حكمة بليغة تقول "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً".



ـ وقدرت تأثيرات هذه الليلة أن تنقش في العمق بدايات دوائر تنداح وتتسع حتى تلامس أقصى الجهات ، فتوهجت أزاهير الحزن والفقر وانطلقت من عقالها ، الكوابيس والأحلام المجهضة ، وامتزجت لهفة الغيرة، ومواويل الجنس بإشراقات الأمل الآتي من شرفات الزمن الجديد، في معزوفة ، إنسانية متفائلة يتساوى فيها الناس جميعاً، بعيداً عن شرانق التعصب ، والحقد والعقد الصفراء، معبرة عن حقيقة مضيئة ، تصفع الجمود والتكلس وهي أن الإنسان في زمن ما هو غير الإنسان في زمن آخر وأن الصيرورة تمسح الناس والأشياء.



- يا إلهي! أين كنت تختبّئين أيّتها الرفات الحلوة، ياللروعة! من أي المخابئ السرية ، نبعت؟! أيّتها الطيور الجميلات! مالي أرى وجه العالم القبيح يتوارى؟ أيتها الينابيع المكنونة كيف تدفعين أحياناً نادرة ، رؤى عجائبية؟! وكيف تغمريننا بكوابيس سود ، تجعل الحياة غير مقبولة ، وتصيرين العيش خريفاً يحاصرنا بحرائق غاباته الملتهبة ، آه آه ، ذاتي مصلوبة على رحى تيارين متناقضين ، مغطس بارد تتفشى فيه روح كانون ، ومغطس دافئ يستدعي انتعاشات ، مفرحة ، ذاتي غريبة عني ، يصعب تحليلها وعقلنة نزعاتها .

تواجد غريب أشبه بتواجد الصوفيين الذين يستشفون برازخ التقاطع بين الأزل والزمان ، بين اللامتناهي والمتناهي، انسياب حلو كرفات الطيوف ترقرق في مخيلته، نبع بلا ماء مرئي ، غنَّى وراء الأشياء ، نسغ خفي ، أصاخ بكليته إلى هسهساته في الجذور.

العالم كله تغيرت وتيرة مذاقه ، وانكشفت أشياء وراء عتبة الحواس.

تذكر قول معلمه فجر الشريف إن المشرفين على الرحيل عن الحياة ، تُرهف أحاسيسهم ، وتتفخم رؤاهم ، يتذكرون كل نأمة أو حركة مرت بهم.

وتصير حواسهم، نسراً يحلق في الأعالي ، ويتسامى فوق الرؤى الدودية ، فيطلون على كوى أشد اتساعاً وتحليقاً، مما كانوا عليه في حياتهم العادية .

عودة