- تريد ابتسامة... تتمنّاها، ولكنها تضيّع الأمل أمام جدّيته الرصينة، تختلق معه فجأةً حديثاً فوضوياً تسأل فيه عن أيّ شيء وعن كلِّ شيء. يحاول ألاّ يخذلها فيجيب تاركاً لحركات يديه أن تشي بتململه. كان بوسعها أن تزجره بـابتسم يا ولد وكان ليفعل، غير أنّها ترفض استدرار سعادتها منه بالقوّة، فهو يريد أن يكون بارّاً من باب الواجب الباب الوحيد الذي لا يفتح من القلب. تمنّت ساعتئذٍ لو تفهم ماذا غيرت فيه الحياة، وكيف لمسافةٍ بين كرسيّهما أن تزداد شساعةً على ذلك النحو.

- الحياة خلف الجدار رباعية الأبعاد، غامضة، عاقلة، صاخبة حتى حينما لا أسمع نأمة. كانت شرائح الشمس تنزلق برفق، ترتطم بالأشياء لتضيأها فتتوهّج عيناي الظامئتان.

هناك وجهٌ يختبئ وراء شاربين، لوهلةٍ بدا الشارب الأيسر أطول من قرينه وهذا يعني أنّ فيه فسحةً حجزت لقلب صاحبه. يلحق الرجل بشاربيه ويقترب، يقترب حتى لا أكاد أرى منه إلاّ حذاءه، أشعر بالغثيان وتنكمش أصابعي فأهمٌّ أحرف عدستي لأغيّر المشهد. راقبتها وهي تعبر... نملة حافية... تقبض على حبة شعير لتطعم شعبها، لقد كانت سوداء وقذرة ولكنها مناضلة. عندما اعترضتها صحيفة مصفرّة ومدعوكة حاولت تخطّيها، مشت فوق العناوين العريضة، اضطربت وأوشكت من ترنّحها أن تسكر، فإذ بي حين تُسقط حبَّتَها أضحك من قلبي بتشفٍّ، إلا أني سرعان ما توقفت كيلا تحسَّ عليّ الحارسة، و تلفّت حولي حتى وثقت من أنَّ بلاهتي لم توقظها.

ـ ظلامٌ خارجه ، وظلامٌ داخله، وداخل ظلاميه تبرق أنوارٌ خافتة لاتلبث أن تزداد سطوعاً، كان يدرك حقيقة ذلك الضياء، و يعرف أنه ليس إلاّ هالات لوجوه نساءٍ تخيّلها، وجوه ووجوه وهو أمامها واقفٌ بلا عينين، لم يتصوّر قط أنّ بوسع خياله خلق جمال بذاك السحر. فتّش بأربع حواسه عن أبهى وجه، كتب عليه اسمها، نصب له شراعاً في تفكيره، وأبحر والشراع..

- فَقَدَ الرغبة بإخراج فرحته، شعر أنّها ستمرُّ على أذني صاحبه كما كلُّ الأخبار التافهة، خاصةً وأنَّ الكلمات جميعها عبرت كالفقاعات بلا رائحة، فالحقيقة الوحيدة التي اشتمّها آنذاك كانت المحبّة الحارّة التي فاحت من احتضان محدّثه لصغيره المريض، والتي طغت بقوّة على جزئيّات الزيارة. كان يريد الشخص الذي يُدهَش و يبارك ويُظهر الكثير من الاهتمام فيسأل عن التفاصيل وعن مستقبل العمل العظيم الجديد، ولأن ذلك لم يكن مضموناً هناك فقد تملّص من الجلسة الثقيلة وغادر. ربّما هي المصادفة التي أنست صاحبه أن يسأله عن أحوال العمل أو هي الكبسة الصباحية الطفيلية التي أزعجته فتناسى،

- لحظة قرّرت أن تقترف الحياة وتقول : كفى، شرعت تبني من ملح عينيها سدّاً عساه يمنع الدمع والأحزان من التسرّب، ومع هذا فقد كانت واثقةً تماماً من أنها مثل غيرها من النساء اللّاتي تشرّبت أخلاقهنّ مورّثات الانقياد، وتعي أكثر من ذلك أنّ المطلوب منها أن تظلّ الخائفة والتابعة كي تظلَّ امرأةً صالحةً.

عودة