«وقف على سطح المنزل ومرر عينيه الصغيرتين السوداويتين الواقعتين في محجرين عميقين في جمجمته، اللتين يعلوهما حاجبين كثيفين كجناحي نسر على تلك المساحات العاتمة، في فمه سيجارة تضيء جمرتها وجهه بلون برتقالي خفيف يبرز في عتمة الليل تجاعيد وأخاديد وآثار خياطة، و تعابير قلقة مشمئزة . الأغاني تنبعث من غرفته وتوافي أذنيه بشكل أشوه لإختلاطها بالأصوات الأخرى… وسحابات الدخان التي تنفخها رئتيه تنتشر أمامه لتزيد من ضبابية المنظر الساكن».



«ليل طويل ووحدة مبهمة بغيضة وباردة إلا أنها أساسية يهرب إليها من محيط يراه صعباً كالصخر كان يضيع أحياناً إرتباطه به، تدور بنفسه الأحاديث والحوارات الشتى و أحلام اليقظة، ومن ثم يلسعه الملل والقلق فيجد نفسه في الفناء من جديد».



«كانت حركة النسيم قد هدأت وحلت محلها رطوبة دافئة، وتحول المنظر إلى لوحة صيفية ينيرها القمر البهي بلون فضي، وإنعكست أنوار السفن البعيدة في البحر العاتم كأنها سماء أخرى وسمع بوق أحد السفن يعلن عن موعد الرحيل، وعاينت رئتيه روائح الصيف».



«تنفس الوحدة عميقاً في داخله، الكل لديه ما يفعله والعزلة تتشبث به، ربما شعوره بأنه مهمش لا رابط مع من حوله سوى شتات ذكريات نضبت، هو ما يدفعه لإختلاق أحاديث و أمور، وكان هذا سبيله الوحيد للعودة إلى حياته السابقة برأيه».



«أنيرت الغرفة بالضوء الصباحي، وإستغرق في النوم بالتدريج، وكأنه الآن يستلقي تحت جذع شجرة كبيرة وأرفة، وعلى مدّ النظر يمتد مرج أخضر يحيط بكل الجهات دون أي مرتفع أو هضبة حتى يتصل بالأفق، هدوء لطيف يلف المكان و لامس بيده العشب الأخضر الذي كان طحلبياً زلقاً، ولاح له شخص قادم من بعيد يتناهى صوت وطئ أقدامه على العشب بوضوح لكن ملامحه غامضة فلم يستطع معرفته، وأستيقظ في النهار على صوت المنشرة الرهيبة».



«كانت المرحلة القادمة هي كل ما يبتغيه، يريد أن يتخطى كل المراحل السابقة للخطبة ليصل إلى مراده بأي ثمن، راحت قدماه تنهبان الطريق في الذهاب والإياب ورئتيه تفني السجائر، ويتخيل الوقت يفلت من بين يديه كساعة رملية، لا بدّ أن يتجاوز كل هذا و سيتزوجها بأي ثمن».



«بعد أن غابت إبتعد قليلاً عن النافذة كي لا تراه وأخذ بالرقص على أنغام إحدى الأغاني التي تبث من الراديو ثم تناول المرآة وبدأ يحرك وجهه بتقلصات و إبتسامات: أرأيت هي من دعاك … هي من يحترق الشوق … آه يا ملك زمانك يا معلم "سهيل"».



«إنتهى اللقاء، وذهبت اللحظات الرائعة مخلفة ً وراءها انطباعا ً بالفوضى والشوق وفي أعماق فؤاده كان ثمة خوف من أن يفلت كل شيء ويتلاشى كالدخان، فقرر أن يسخر كل قوته للمرحلة القادمة، الزواج».



«إنه حزين وكئيب وحائر، قدماه تعبر المساحات التي قطعتها آلاف المرات بحثاً عن لحظة هدوء، وغابت الحارة عن ناظره لم يبق سوى السيارات والتلال الغامضة وجسد ضئيل مليء بالمرارة وحطام حادث، ثمة تساؤل ملح يجثم في عقله: لماذا علاقته بالكون هكذا؟ من يريد أن يستمر قلقه وإنزعاجه بشكل دائم؟ ماذا فعلت حتى يساء لي بهذا الشكل؟ هل الله من يفعل هذا؟ وجال بعينيه على التلال الغامضة والسماء إنه وجود غامض يزيد من حيرته التي تتضخم بلا ضوابط وتنبثق عنها مئات الأصوات… لم يشعر في حياته بالعجز كما في هذه اللحظة».

عودة