في إحدى أمسيات نيسان – عرس الربيع – انطلقت وصديقي سعيد نتنزه في شوارع أحد أحياء دمشق الجميلة. كان لون السماء لازورديا مشوبا بالزرقة. الحرارة معتدلة والطقس ربيعي القلب والقالب. كما يقولون.

كانت خصل كثيرة وكثة من الياسمين والمنثور والورود الدمشقية تتدلى بحياء من فوق أسيجة حدائق المنازل الواقعة على ضفتي أحد الشوارع التي كنا نعبرها. وكانت هذه الخصل ذات الألوان الزاهية تنثر نسيمات متداخلة الامتزاج، نفحة منها تأتيك تغلب عليها رائحة الياسمين، وأخرى رائحة المنثور، وثالثة رائحة الأوراد. جعلنا شذى هذه الورود والأزهار نشعر بالسعادة شعورا ماديا من شدة الهيام والانشراح والبهجة.

حلما خرجت من معمل البوظة، أخذت أطوف الشوارع مناديا: حبة الأسكا بفرنك... حبة الأسكا بفرنك. وبين هذا وذاك كنت أتذكر المهن السابقة التي امتهنتها في سني حياتي العشر: عتال على الحمار، صبي خادم في مطعم، طفل يجمع الزجاج من المزابل ويبيعه للزبائن الجوالين. وأثناء ذلك كان ينتابني ضحك شديد، وأقول لنفسي: ارتفعت بك الباية يا نورس!

في وقت متأخر من ليل أحد أيام الصيف القائظ، اندفعت من وكري الواقع في حي التقدم، بعد أن جعلني العرق من وكري الواقع في حي التقدم، بعد أن جعلني العرق الذي كان يتصبب مني من تأثير درجة الحرارة العالية، لا أستطيع صبرا على المكوث في هذا البيت الوكر الذي كان يخزن بين حناياه عددا من الأجساد البشرية يتجاوز العشرة، جلها من الأطفال.

في أحلامي، تراءت لي سجون كبيرة ذات أبواب حديدية عالية. دلفت الباب الرئيسي لأحد هذه السجون، وانسابت قدماي عميقا. آن وصلت نهاية السلم, لم أر سوى زنازين صغيرة الحجم، تطل منها رؤوس آدمية جميلة المحيا، واهنة التقاطيع وحزينة. أخذت هذه الرؤوس البشرية تبحلق في وترميني بنظرات مختلفة التعابير والرموز. بدأ الخوف يتسرب إلي، بعدما غزت عقلي فكرة تقول بإمكانية أن يصبح رأسي واحدا من هذه الرؤوس التي أدمتها الحياة.

عودة