ـ نحن يا آنسة علياء، أصحاب القلم، ومعشر الشعر والأدب، من المستحيل أن نوفق في شأن الزواج، لأننا نعيش في عالم يبتدعه خيالنا، عالم سماوي، نبنيه من مداد وورق، نحن نرفض الزائرين الذين يقتحمون خلوتنا، ويتطفّلون على عزلتنا، ويتدخلون في شؤوننا، كل منا يبني مدينته على ركام آماله المفقودة، وأحزانه الدامية، وذكرياته القاتمة، نحن يا آنسة علياء نرفض السعادة، قدرنا: ألا نعرف الفرح، وألا نحاول بلوغ الأماني، قدرنا هو أن نذوب بالحمم الدفينة في أعماقنا، أن نحترق ونحترق، وتشهد على آلامنا صرخة الأوجاع التي تمتد على الورق، ولو قدّر لك أن صادفت شاعراً، أو أديباً، فصدّقي أنه بالزواج شقي، وأن الحريّة همّه وغايته وأمنيته.

ـ تاهت روحي، تشتتت ذاتي، تمزّقت إرباً شخصيتي، عبثاً أحاول التوفيق بين تصرفاتي ورغباتي، فينتهي بي المطاف إلى فصل ذاتي عن ذاتي!!

الناس لا يعلمون أنني أزفر آهات القلق، وأتنفس شهقات الأرق، لأنني مزروع في جوف الاتهام، مسكون في أحشاء المخاوف والأوهام، متهم مظلوم بإشاعة الآثام!!

ـ وتعدو ياسمين في الطرقات، طفلة تائهة، تعبر الليل الموحش، تبتلعها الآهات الممزّقة، تلوك في فمها عصارة الحرمان، إلى أن تخلو الشوارع، وتعوي الرياح، وينفجر الرعد، وتصاب السماء بماس كهربائي، يمتّد إلى أطرافها، يصيب قلبها المحروم، تتكوّر داخل مقعدها في الباص، تغفو من الإرهاق، ويدها الصغيرة،تقبض على بضع ليرات، تخفيها داخل زنار خصرها.

ـ أجدادنا يا عزيزتي, لم يحتلَّوا الأرض الذهبيّة عنوة واغتصاباً, لكن أصحابها عجزوا عن حمايتها, كما عجزوا عن امتلاك ناصية أمورها, لم يقدّروا قيمة ما منحهم الله من ثروات, وخيرات, تكاسلوا, تقاعسوا, تنازعوا, تفرّقوا, ومن ثمّ انهاروا, وصاروا إلى زوال.

ـ ولكن, ما أسباب ضعفهم, وعجزهم؟

ـ هؤلاء القوم لم يفكّروا فيما هو أبعد من حاضرهم, تجاهلوا المستقبل والمصلحة العامة, في سبيل المصالح الشخصيّة, ومع طغيان الأنانية والتزمّت, وضعف الفكر الجدلي, وانعدام التخطيط وفقدان التركيز, والانشغال بجمع الثروات, والحفاظ على المقتنيات, والممتلكات, تدهورت معيشتهم, أبيدت حضاراتهم, وانهار تكوينهم, مما جعلهم لقمة سائغة لأجدادنا الذين كانوا آنذاك, ينفقون أعمارهم في حقول التجارب, والأبحاث, والاختراعات.

ـ كيف هان على القدر خداعي؟ واستباح طعني في ليلة، كان من المفترض لـها أن تكون ليلة عمري؟؟ وكيف تبعثرت الحروف وتلاشت في حلقي أمام بهجة غريبة، جللّت كيان أبي، وغبطة فريدة غمرت وجهه الملسوع دوماً بالنوائب، والفواجع، هذا الوجه الذي اصطبغ دوماً بالأسى غشيته فرحة مفاجئة، لمجرد حصوله على تصريح للسفر إلى "فلسطين".

ـ رائحة القدس تسرد قصصاً طويلة، صوت الماضي ينبعث أنيناً من الجدران المثقوبة، الدم ينفر من شقوق الأرصفة، المصابيح مكسورة، البيوت متقاربة متلاصقة، تنام على أكتاف بعضها، ومن شرفاتها الصغيرة، تنبعث موسيقى حزينة، تهتزّ لـها الأزهار المتدليّة من نوافذها.

عودة