- ما قيمةُ لياليك يا شهرزاد.؟ ما قيمة ألف جرعة هوان انسفحت على جسدك، في ألف ليلة..

إن توقفّتْ حكاياتك، تموتين..

كيف أستطيعُ التراجع عن قدري واختياري ومعركتي.؟

هل أجرؤ أن أفعل وأغنيات أمي المخنوقة ببحّتها الجارحة تستحلفني.؟

ظهيرة اليوم التالي، هطلت مع انتشار الخبر المفجع غيمات ذهول فوق رؤوس الناس، وليس لهم والدهشة تمسك بتلابيبهم إلا ثوابُ مرافقة الجنازة.. يوارونه الثرى، ثم ينفضّون.. يعصرهم الحزن إلى بيوتهم وقراهم القريبة..



- أذكرُ يوم رفعنا أربعة جدران من طين، وألقينا فوقها قصباً وقشّاً وحصيراً قديماً سقفاً لحظيرة فقيرة لا أكثر، تظلّل بقرة اقتنتها أمّي.. قالوا إن حليبها يخلق في جسدي الهشّ عظاماً جديدة سليمة.. بعد أيام جاءتنا من كل حدب وصوب خوذات مجنّزرة، وشعور شقراء.. جرفوا الحظيرة، وشجرة التوت، وأحواض البقدونس والنعناع، واقتلعوا عتبة البيت..

اليوم لا تستطيع هذه الحمائم البيضاء الهزيلة أن تحملني إلى أي مكان، ضاقت بين صفير أجنحتها عشرات الدروب التي عاشت معها ومعي دقائق عمرها وعمري..

رصفوا تحت قوائم الكرسي الذي يحمل حطامي طرقات جديدة.. عريضة جداً، تدور وتلتفّ إلى أن قتلت بإسفلتها المحرق الحمام والعصافير وفضاء المسافات، وأغلقت في درب صعودها إلى قمّة التل ركناً من السماء.. ثم أقاموا على تخوم بيتنا هذه الجدران المزيّنة بجدائل سوداء، تحمل على رؤوسها مربّعات خمريّة، ترتفع وترتفع حتى التصقت بحدود الكون، لا أرى من خلالها غير قرميد أحمر جاف لا أستطيع أن ألمسه..

يومها قالوا إنه عالم آخر.. عالم ساحر قادر على بعث الحياة في أطرافي الميتة.. لكنني عند أول نوبة تشنّج يبستّني، لم أجد غير حواجز ودروب مسدودة، وشوارع تقود في منتهاها إلى بيوت حمراء أيضاً..



- يوم سألتني أين أبي وأمي..؟ سألتني، من أنا ومن أنت..؟

أتذكر..؟ لم أكن أجد لأسئلتك أجوبة..

يا وجعي.. لم أكن أملك الجواب..

من أنا أو أنت..؟

كل ما أعرفه أننا رفيقا رحم واحدة.. وقد عرفتها، عشت معها، أحببتها، كانت مثلنا لقيطة هذا العمر، معصورة هي الأخرى بين الرحى والطباق، مصهورة كل ليلة كل ليلة في أتون محرق حدثتني عنه طويلاً، كنت صغيرة ولم أدرك..

عندما كبرت قليلاً أدركت أننا أنا وأنت نبتنا في لحظة قاتمة من حجر صلد أصم، جئنا من مكان على خارطة التاريخ، لم أعد أذكر منذ متى ولا من أين.

قالت ألف مرة أننا فتات أب تبخر مثل قطرات الندى، ولم يفارق لا هو ولا المكان حلمها إلا ليلة لفظتك.. وماتت..

مسكينة كانت، وحزينة عاشت، ضيعتّها ذكرى ضبابية مجهولة، وجرفتها طواحين الحياة، ولم تبق لها أكثر من المحراب والمكان والحلم بنا..



- ألف امرأة من رياح الوطن حولي.. خصيبات.. ثراؤهن جمال ودلال.. ودعوات توشك على الصراخ.. كيف لم تشدّني واحدة منهنّ..؟

وآثرت بل ارتميت كعاشق غبيّ بين أحضان حب مستحيل جاءتني رياحه أخيراً على جناح نورس حملها وصرّها أمام لهفتي من أرض الوطن.. الذاكرة..!

وكم حاولوا وأرادوا أن يصوّروه لي ولأبنائه بأنه عين المستحيل.؟

ما أعذب الغوص في بحور المستحيل.!

ها أنا ذا أغوص فيها حتى قيعانها.. ترفرف الأجساد الشهيّة فوق لهاث شوقي.. تقترب أكثر.. تكاد تلمس أصابعي.. فأعزف عنها..!

ولا أكفّ عن عشقي لـ مستحيل..!

أرتمي مثل طفل غرير في أحضان عذابات أعرف أنها لن تتوقّف.. تروح وتجيء تحمل لي على جناح النورس ذاته ريح الوطن.. تقرّبه من حلمي.. وتبعد عن شوقي لهفة اللقاء.!

وأعرف أنه مستحيل.. فأستمرئ عذابي.؟

عودة