- كان المنظر بعيداً عن دهشة الموت بل لا يذكر به، فعلى صفحة الماء الرصاصية الغامقة بسبب غيمة وحيدة تحتجز الشمس، كانت بنت السلطان مستلقية على ظهرها بثيابها الملونة المزركشة بقصبٍ ذهبي، وشعرها منثور على جانبي رأسها كأنها تسبح... كأنها تضطجع لترتاح بعد تعب. بدت من فوق، كأنها مجموعة ورود وزنابق الماء في منبع البليخ.



- نعم يا مختار. البنت عذراء مثل طفلة.

فجأة عند أذني، انطلقت زغرودة أجفلتني وجعلت أذني تطن، تبعتها زغاريد ن أفواه كل النساء دفعة واحدة. وفي رطوبة الربيع وهيجان الزغاريد راحت الأصداء تتردّد كما لو كان التل في الغرب والهضبة الشرقية في الشرق يشاركان بالزغاريد مرجعين الصدى بينهما. كل شيْ في القرية هاج. الكلاب نبحت. الأغنام جفلت، وثغت. الخيول أصهلت. الدجاج رفرف بأجنحته. السنونو طار من أعشاشه في البيوت وحلق في جو القرية كأنه محمول على الزغاريد المتصلة بين التل والهضبة.



- انقلع يا عجي..

قالها رجل يلبس عقالاً شريفياً مذهباً على محرمةٍ بيضاء وبدلةٍ إفرنجية وهو يقذفني من قبة الجاكيت إلى الرصيف المعجّر بجذور أشجار الدلب. بشعورٍ ضائع سمعت حس قماشٍ يتمزق بينما جسدي ينقذف متعثراً بين موجات الأجساد المزدحمة. دون أن أنظر ارتسم وجه أمي طافحاً بتعابير السخرية، وبلذة حصول ما توقعت. بعينيها تقول من فوق فمها المزموم على الغضب "هذا الذي قلته...! تأتيني بجاكيت ممزق.. قلت لك الدنيا تموز... ما سمعت!! انبسطت؟! سجلك عبد الناصر بالدفتر مدير ناحية ولاّ مأمور ؟!!... لو إنك شبّعت المعزى ما كان أحسن؟!..."



- تصايحنا كأننا في لحظة واحدة شهدنا المشهد.

رأينا التل يمور في السراب. مرة يظهر كاملاً. ومرة أخرى يزول وكأن السراب ابتلعه.

وعلى انحائه الجنوبي يصعد الناس كالنمل غارقين في أنهار السراب أحياناً ، ومتأثرين أحياناً أخرى ، ورأس التل حيث يقف بضع أشخاص يبدو وكأنه تبة مفصولة عن ما سواها برهج السراب ... جميعاً... وفي لحظةٍ واحدة صاحت ألسنتنا المبهوتة كأن الواحد منّا يهمس لنفسه :

أحد مااااات..

عودة