- سنوات عجاف ملأى بالشقاء والألم ، لماذا ولماذا ترددت مرات ومرات؟

تساؤلات تطلق عنانها للريح، يمطر فكرها زخات من أجوبة لم تقتنع بها، كأنها تتقيد بالسلاسل، فيما إذا سنحت لها الحياة يوماً أن تطرح مثل هذه الأسئلة على زوجها.

راديو قديم في سيارة مهترئة تنطلق في الصباح الباكر إلى المدينة وتعود إلى القرية عند الظهيرة ، نتوءات بارزة من حديد المقاعد، صفائح من التنك، صرر وأكياس قنب، مكانس في الممر الضيق، ودلاء وقفف وسلال.

روائح كريهة تصدر من طفل رضيع ، رائحة أجساد رجال ، وأجساد تتموج بينها المرارة والكسل من قيظ هجم في هذا الصيف دفعة واحدة.

توقف الغناء، أعلن المذيع عن موجز الأنباء قائلاً: وبعد الموجز ستستمعون إلى نشرة تفصيلية للأخبار.



- أحسّت "مرجة" أنها ستصبح بعد أيام وحيدة، بينما كانت قبل سنتين تشفق على "زينب" بعد أن سافر "همام" للدراسة في موسكو، وكلما رأتها حزينة تحزن معها بصمت دون أن تؤنسها بكلمة لطيفة.

هبط هذا الخبر مسترخياً، حوّلها إلى جثة هامدة، إلا قلبها فقد ظل معلقاً، متوتراً، انطلقت أفكار صعبة، مدت أعناقها بعيداً: «أهي أحلام يا مرجة! لقد مللت من الهواجس.. الحقيقة غير.. ستتركني هند، ابنتي المدللة، رافقتني طفلة في شبابي.. ها هي ذي الآن فارعة الطول، أطول مني وأنا أقترب من الشيخوخة، ستذهب إلى المدينة وتدرس وتتخرج صيدلانية، وتتزوج من ابن المدينة، وتكره العودة إلى القرية، إنها بحاجة إلى رجل يرعاها ويحميها، بحاجة أن تعوض حنان الأب الذي فقدته طوال عمرها، بحاجة إلى وجه غير وجهي.. إلى زوج يلازمها ويرافقها أيام الشباب والكهولة والشيخوخة، يدللها ويرفعها على راحتيه».



- رؤوسنا مزروعة في التربة الصحراوية، ستنبت رجالاً وفدائيين، همست: وحيداً تبدو علي ملامح الهرم والشيخوخة، التي تحمل بعضاً من الحزن، وشيئاً من الشجاعة والفرح.

تحدثت مع نفسي منفرداً، أبحث لروحي عن هموم هجرتني، وهموم تكلست في رحم الذاكرة، وعن أسئلة تحمل بقايا هزائم، وبقايا تخلف، وبراعم انتهازية ناهضة «ماذا أغواني حتى أتمرمر في هذا العمر؟ قلت: هذه مهمات للشباب وحدهم... أما دوري كمشرف أو موجه فيكفي في قوات الأنصار التي صدر قرار تشكيلها مؤخراً، وأذيعت بيانات سياسية، وبيانات عن العمليات التي نفذها الأنصار... لكنها كما يشاع كانت عمليات وهمية، لتلفت أنظار الرأي العام العربي والعالمي... والدعاية كما يتصور ويعتقد السياسيون والمتحازبون هي محرّض جماهيري، لبث الوعي في القضايا الوطنية والقومية الكبيرة، وتصليب الجبهات الداخلية».



- كان القمر في تلك الليلة التشرينية يفتح رئة الفضاء، تتناثر ذرات الضوء في سماء صامتة، إلا من نباح كلاب البدو التي تنتشر هنا وهناك في بقع تنبت فيها الأعشاب والنباتات الشوكية، أصوات رفيعة تتدرج موجاتها لابن آوى. تظهر أحياناً أضواء بعيدة، كأنها قريبة منا، فالليل خدّاع، لكنه في البادية هادئ وآمن. وهذا الامتداد الواسع فراغ فقير بالناس فلا قرى أو مدن.. حدود مفتوحة... ذيول حرب دموية انتهت، لكن أجواء الخوف مازالت مشحونة بالتصعيد... الناس لم يخيطوا جراحاتهم ويدفنوا الجثث ويفتشوا عن المفقودين، وعن موتاهم الموزعين بين أحياء العاصمة، وعن الكثير من الأحلام الضائعة، أو التي تقطعت وماتت في أحشاء ذاكرتهم دون عودة.".

عودة