- الذين قذفوني إلى خارج قريتي "المسمية" ثم إلى خارج وطني كله وأنا طفل ، ظلوا يطاردوني بينما أنا أكبر ، شاؤوا أن أبتعد عن الوطن أكثر فأكثر ، ظنوا أني سأنسى حاجتي إلى العودة بمقدار ماأبتعد وسأيأس إذا طال الفراق .

غير أني أنا المطارد ، ظللت أطارد حاجتي ، لم أنس الوطن ، ولم أيأس ، ولم أكف لحظة عن تنمية الأمل بالعودة. أسكنت وطني في روحي ، فردت له مساحة الروح وفيها نميته كما ينبغي لأي وطن أن ينمو ، وجملته.

وهل يمكن لوطن الروح إلا أن يكون دائم النمو وجميلاً؟ ونقلت وطني معي كلما انتقلت.

لم أعش في الغربة دون رفيق ، فقد ظل المتوطن في روحي هو رفيقي الدائم.

ولأن من أقصاني عن وطني قد أقصى وطني ذاته عن وطنه.



- أيها الوطن الذي لاوطن لنا سواه ، كان الخروج منك موجعاً وصارت العودة إليك موجعة ، والسبب واحد في الحالتين والمسبب!



- أمي..أمي وكل سنوات الفراق ، الأم والوطن.

ابتعدت عنهما أربعة عقود ونصف عقد وهاأنذا أرجع إليهما كليهما في يوم واحد.

أقصيت عن أمي ووطني وأنا طفل لم يتخط العاشرة ، وكنت وقتها بلا حول ولا خبرة ولاعدة لمواجهة الحياة.

وهاأنذا قد رجعت بست وخمسين أو سبع وخمسين طافحة بالخبرات.

فقدت الابصار بواحدة من عيني أثناء الحرب التي أبعدتني عن مسقط رأسي.

وفقدت السمع بواحدة من أذني في حرب أخرى من الحروب التي لحقتني في المنفى ، فصرت لاأرى محدثي إن جلس على يساري ولاأسمعه إن جلس على يميني.



- لم أنتقل إذاً ، من المنفى إلى الوطن فتنتهي غربتي ، بل صار عليّ كي أنهي الغربة أن أنتقل من وطن الذاكرة الماثل في الروح إلى الوطنالواقعي الماثل أمامي ، من الوطن الجميل والمريح والعابق بالوعود ، إلى الوطن المهشم والمعجون بالمشاكل.

وصار عليّ أن أنسى "المسمية" نسياناً تاماً .

هي التي لم يعد لها في أي حال إلا وجودها في الذاكرة ، وأن أقنع نفسي بأن هذا الحيز الضيق الذي لاتعرض "أوسلو" عليّ سواه هو وطني.



- فقدت أمي ، وقبلها فقدت الوطن الذي في الذاكرة.

أمي والوطن ، فما الذي بقي ؟ هل ستسعف هذه البقية من حياة المشرف على الستين الذي أضنى شقاء المنافي روحه وفتكت بجسده الأدواء.

وبقايا الوطن الذي مزقه الغاصبون. البقايا التي خربوها ، هل من الممكن حقاً استخلاصها من أيديهم ، ومن الذي سيستخلصها ؟ هل سيستخلصها هؤلاء الواقعون في مصيدة" أوسلو"؟ وهل يمكن إصلاح هؤلاء الذين فتك العناء والشقاء بأجسادهم وأفسد الطمع أرواحهم؟

عودة