الصورة غير متوفرة

ـ ظل صوت المنادي يردد متنقلاً : " لا يمكن بعد الصمت! انهضوا أيها الموتى، انهضوا!" ورأت الفتاة امرأة تتقدم، فسألتها: عم لا يمكن بعد الصمت؟ أجابتها المرأة : جديدة؟ اصبري إذن..سنتنحدث عن ذلك في الاجتماع . وقادتها إليه. وفي الطريق روت لها ما يحدث في مملكة الصمت. هي هنا منذ عشر سنوات. قطعت خلالها أيام الحزن على الحياة، والقلق على الباقين من الأحياء. وتجاوزت الشوق إلى الأخبار. وصلت إلى زمن تستمتع فيه بسماء الليل، حرة الخطوة تتجه حيث تشاء. غير مربوطة بانتظار الزوج والإبن وبمواعيد الطعام وملعقة الدواء. تجمع رداءها وتتجول، تجري كضوء القمر والماء. لا يزعجها هنا غير الزحمة . فالقبور متقاربة كأنها أبنية الأحياء . لم يصل بعد إلى قبرها المشردون، ولم يستلق بعد فوقه شخص ثقيل، ولم ينشر أحد بعد ثيابه عليها، ولم يهزها بعد شخص يرتعد من برد الليل. لم يعلق أحد بعد فوق شاهدتها سلة أو بنطالاً ، ولم تفح بعد حولها رائحة الحشيش!



ـ في تلك الأمسيات كان الموتى يزدادن ثقافة ومعرفة ، ويقدرون حظهم الذي جمع في مكان واحد الأمراء الشجعان الذين جابوا البلاد، والعلماء الذين حفظوا آلاف الصفحات، والشعراء والمعماريين. كان حتى السياسيون الخائبون الذين يحكون عن تجربتهم حتى إعدامهم أو سقوطهم، يستنتجون في تلك الأمسيات ما كان يجب أن يستنتجوه في الحياة.

ولم توجد هناك حواجز بين النساء والرجال. ففي اللقاء يتجاورون لا فرق في السن والجنس , تنفرد النساء فقط عندما يستقبلن امرأة لم تألف بعد العادات في مملكة الصمت، ولم تقطع بعد علاقتها بعالم الأحياء. وتحتاج الحنان الذي ينتزع الانسان من الأحزان.



ـ كان الكندي يبتسم." لماذا؟ لم يسرق قبري وتلك مكافأة عظيمة! لكن الغبار يخنقني. حولي مستودع لما فاض عن السوق والموممين. وفي نافذتي يغسل الباعة الخروق. أتذكر أني مشيت في ذلك السوق، وفي آخره انعطفت . وإلى هناك وصل المعظم عيسى، قريبك يا صلاح الدين. وانتظرني حتى أكملت درس الشعر الذي كنت ألقيه. انتظرني في أدب حتى حان دوره! زرت الأموي وبحثت عن المكتبة التي استقدمتها وانتقيتها من مخطوطات مصر. فماذا وجدت؟!"

كان صلاح الدين يقف مهيباً ويستمع إليه . ماذا يقول هو، ماذا يقول؟" يوم دخل الملك فيصل إلى دمشق مع الجيش، زارني . ودخل خلفه لورنس، فسرق الإكليل البرونز الذي أهداه الامبراطور غليوم لضريحي! ولو استطاع لسرق الضريح."



ـ حدثت ضجة، في تلك الليلة، في مملكة الصمت. توافد أهلها إلى الساحة ليطلوا على الدنيا التي تركوها من زمان . ففي وسطها نصب مسرح. وفي القاعة أمامه صف الشهود والمتفرجون.

هؤلاء هم رجال العالم اليوم، ياصلاح الدين؟!

لم تخف السخرية على صلاح الدين. فنور الدين يلمح الضعف والغرور حتى في الملابس، ويخترق الصوت ليقدر الصدق والكذب. فيرتبك أمامه أكبر الناس ارتباكه أمام المتصوفين.

في حطين محا صلاح الدين ماكان بينه وبين معلمه نور الدين من فتور. ولعله محا أكثر من ذلك وهما يتابعان، من مملكة الصمت، البلاد التي تركاها، ويتبينان أن أفكارهما تسلك طرقات متشابهة. ولكن لماذا يخيل إلى صلاح الدين هذه الليلة، أنه أقدر من نور الدين على تحمل المسرحية التي تعرض في الدنيا؟ وهل كان يستطيع إبعاده عنها، وأصغر سكان مملكة الصمت سار إلى الساحة للفرجة!



ـ حاولت أن أدفع غطاء التابوت كي أعلن الحقيقة للسائرين في الموكب، فوجدته مغلقاً بالمسامير والأقفال. وتذكرت القول الذي كانت أمي تردده: الكذب على الموتى وليس على الأحياء! وقررت أن أصحح لها مثلها عندما نلتقي.

ولهذا وجدت نفسي أفتش الشواهد باحثاً عن اسمها. لم أجده! فطرقت القبور متسائلاً هل سرق مأواها؟ ثم سمعت همس جارتها: أمس طلب من الموتى التوقيع في دفتر ذي شرائط مذهبة يعلن نهاية أطول صراع في القرن! حاولت أمك الانتحار. لكنها لم تستطع الموت مرة ثانية فهربت. وما زالوا يبحثون عنها بالأنوار الكشافة والكلاب. أنصحك يا ابني، لا تذكر اسمها!

عودة