- كانت انتظارا مجنوناً ، أدار شؤونه فيه إحساس حزين بالشفقة اتجاه الصديق الضائع في أقبية البناء الصامت.

هب هواء بارد وعبرت به موجة من غبار متطاير وأوراق هشة اتجهت شمالاً وهي تهسّ هسيس نار.

أشعل سيكارة ، كرع ربع البطحة البيضاء ، غنى قليلاً.

وحين خلت الساحة من البشر قرر أن ينام حيث كان بدوافع من إلهام أبوي.

بات مقتنعاً بأن خروج يونس صار قريباً .

فكر بأنهم ربما موتوه فخطط لما سيفعله إذا ماخرجوا به ، ورموا جثته بعيداً.

انتزع الفكرة من رأسه كما ينتزع مسماراً ، وهو يحدث نفسه بأن الرجل بريء لم يمض على وجوده في البلد أكثر من ثلاثة أيام فقط فمن أين جاؤوا بالتهمة كي يسجنوه؟



- عندما رجع كان يجر خيبته وراءه ، اختار دكانه تلك بنفسه ، وقعد فيها مرفقاً بكتاب من الحكايات والقصص وأخبار المغامرات ، جعلت من المجئ إلى حانوته متعة مسائية لعدد كبير من الشبان والرجال.

كانت الروايات هي البديل الملون الدافئ لخسارات حياته كلها.

لكنه مايلبث حين ينفض السامعون ويذهب كل منهم إلى بيته أن يوقن أن ليس ثمة إلا أمر واحد : لقد خسر! لقد تمنى طوال العمر أن يجد ذلك الكنز اللعين الذي ينتظره ، إنه قدره المحفوظ في لوح الله.

سعى إليه بلا تردد ، قاتل من أجله ، تزوج من أجله ، حفر ونبش... لكن عمله فشل وقدره ضاع.



- غادر التلة بدوره حين لم تبق واحدة . ولى وجهه شطر المدينة ، عبر البراري ، متحاشياً الدرو ب، والطرق ، راح يسأل نفسه إن كان قد اختلق قصة الشيخ من النسيج الشفاف لأمنياته ورغباته.

أم أنه ملاك أرسلته الأقدار تطاير بعد رحيله بثوان.

أم أنه حقيقة لايريد أحد الاعتراف بها. ولكنه يعرف تفاصيله كلها ، كما لمس رائحته البشرية ، وقاس عمره بكل يسر، ولم يكن في الأمر أي جانب خارق لكي تشكك النساء في صدق وجوده.

ماكان البيت خراباً، ولابدا عليه أنه مهجور ، باستثناء عريه من الأثاث.

كل شيء فيه كان عادياً. خطر له أن يرجع إلى القرية ليتأكد من وجود الرجل ، ثم بدل رأيه حين تلمس القطعة في جيبه وتساءل إن كان من الممكن لشخص خلقه الوهم والخيال أن يمنحنا موجودات تنفصل عنا وتعيش خارجنا؟



- نعم! لقد كانت موجودة قربه هناك في الغوايانا الشيطانية ، كل لحظة، جميلة ، طويلة وتحكي كثيراً.

وهاهي الآن الأمل المتبقي في وجوده في حين لم يستقبله أحد سوى اليأس، والهزائم ، وعنف الزبانية العجيبين. وحين تذكر أيام السجن في زنزانة أبي ليلى كاد يطق ، وعرف بأنه سيموت لولا فضائل أبي الريش ، ولولا هذا البصيص الضئيل الذي يتلألأ أمامه كلما اشتبكت الأشياء من حوله ، وضاق صدره ، وهو لايفهم شيئاً ولايعرف أي تفسير يمكن أن يستعين به ليدرك مغزى الدسائس حوله.



- تريد أن أروي لك كيف أحببتها هذا هو السر ، لأنني حين جئت إلى بيتهم ذات يوم وجدت أنها جمعت تلاً من الزهور المجنونة : أقحوان، وحندوق، ونفلة، ودحنون، ونقعتها في بركة ماء لتستحم بها في أربعاء البراقطة.

تعرف ماذا فعلت؟! أرجوك أخوك هذا ملعون، عدت عند الفجر ، دون أن يراني أحد، وهناك رأيتها ، كانت غارقة في ماء الزهر الساخن ، تصب منه، فيسيل على جسدها ، في جداول بارقة ، تتسرب عبر الكتل الممتلئة من لحمها، شيء يجنن ياأخ ، خاصة أنها كانت تغني وكان صوتها يرن داخل المطبخ الحجري المعتم مثل الصدى العميق القادم من بطن واحد.

عودة