- مازلت أذكر صوته الحنون الحزين وهو يتساءل: هل سيحققون لي هذه الرغبة؟ يضحك ويتابع : سابقاً كانوا يحترمون رغبة المحكوم عليه بالاعدام الأخيرة .

تابع بعد شرود لحظات : أنا لاأطلب منهم شيئاً خارقاً لايمكن تنفيذه، أليس كذلك؟

هززت له رأسي موافقاً ، وأنا أتذكر ابتسامة ذلك الرجل منذ أكثر من خمسين سنة.



- كنت لحظتها منحنياً أرتب الأكياس الصغيرة داخل الكيس الكبير عندما وجدت قامة لرجل تقف قربي حتى أن بنطاله قد لامس رأسي، بحيث لو رفعته لاصدم بساق الرجل شعرت بغضب، وأنا أقول في نفسي: ياله من رجل قليل الذوق، ألا يستطيع أن يقف بعيداً عن رأسي لكيلا يحشرني بين صناديق الفاكهة وساقيه؟ أمعنت نظري في حذائه، فعرفت فيه حذاءاً، فعرفت فيه حذاءاً عسكرياً، ثم أمعنت النظر في لون بنطاله فكان لونه كلون ثياب العساكر..



- واشتغلت بعض الأزهار من الجلنار على سور الحديقة التي تحيط بالفيللا توهجت ببطء، ثم شعت بضوء ساطع، ثم راحت أطرافها الرقيقة الهشة اللينة تترمد على السور الحديدي الأسود، وتترك خلفها رماداً وآثاراً دقيقة عجيبة.

تهدلت أطرافه بعد أن شعر، خلال حواره الطويل مع الرجل الذي أشرف على تعذيبه، أنه يدافع عن نفسه من موقع ضعيف وغير مقنع بعد بتخاذله.



- كم أصبحت المدينة غريبة عليه! كأنه لم يولد فيها، ويكبر تحت سمائها، ويتزوج من إحدى نسائها، ويناضل من أجل غدها المشرق.. كأنه في مدينة لاتمتّ إليه بصلة! انتابته مشاعر مزيجة من النزق والحزن والغضب والحقد والقهر وأنظاره تنزلق على الأشياء المحيطة به، دون أن تثبت على شيء كأن حاجزاً ما بينهما، فاصلاً يبعده عنها وعما يحيط به، إنه غريب! لماذا؟ ماسبب ذلك؟



- لكي نلغي النقود من حياتنا، علينا أن نعمل لننتج مايحتاجه الناس من المأكل والمشرب والملبس والتعليم.. ولكن بكمية أكبر من الكميات التي يستهلكها سكان الجزيرة، ثم قام مجمع العلماء في البحث، كيف يمكن للجزيرة أن تصل إلى هذا المستوى.. فكشفوا أن عليهم صنع أدوات متطورة، وإلى توعية الناس بضرورة العمل ليصبح حاجة مثلها مثل الأكل والشراب، لكي يصلوا إلى حالة الرفاه التي وضعها مجمع العلماء نصب عينيه، ولم تمر سنة واحدة حتى حقق السكان ذلك الأمر..

عودة